مقالات وآراء

الأربعاء - 27 أغسطس 2025 - الساعة 01:23 ص بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/مقال لـ”أبو زين الوليدي”

أتذكر وأنا طالب في مدرسة (الشهيد القريبي بأورمة- مودية - أبين) أنه كان يسبقني بثلاث سنوات طالب من قرية (ساكن البير) فكان يحصد المركز الأول، هذا الطالب اسمه (محمد أحمد فضل عبد النبي) لا أزال أتذكر هيئته وسحنته وطريقته في المشي والحديث، كان هناك إجماع بين الطلاب والمعلمين أن هذا الطالب نابغة لا يعلو عليه أي طالب في المدرسة كلها، وكان الكل يتوقع له مستقبلا باذخا يتساوى مع علو مستواه العلمي وجهده في التعلم ودرجة المثابرة في التحصيل، بالإضافة إلى أخلاقه العالية وحسن أدبه وسمته وتفوقه في فن العلاقات مع المعلمين والطلاب.

كل تلك المؤهلات العلمية والأخلاقية جعلت الطريق أمامه ممهدا ليكون طبيبا مشهورا أو طيارا أو مهندساً كبيراً أو عالما ذريا، خاصة وهو ابن الضابط العسكري خريج الكلية الحربية، ووجود أب ضابط سيكون بمثابة الكهف الذي تحتمي به طموحات الولد والسفينة التي تبحر عليها أحلامه.

انتقل الطالب محمد إلى الثانوية وانتقل معه تفوقه وطموحه، وأحلامه التي لا يعيقها إلا بطء عجلة الزمن.

ولكن .....
حصل ما لم يكن في الحسبان....
جاءت أحداث ١٣ يناير ١٩٨٦م المؤلمة وجرفت معها الكثير من الأحلام، وحطمت الكثير من الآمال، وأطفأت أشعة كانت تنير الطريق لكثير من السائرين.

قتل الملازم أول (أحمد فضل عبد النبي) فكأنما هبت على عائلته عاصفة هوجاء اقتلعت خيمتهم وتركتهم في العراء، فأشرق عليهم الصباح ولا معيل لهم، مثلهم مثل الكثيرين الذي قتلوا في هذه الحرب الخاسرة من الطرفين، وهنا كان لزاما على الطالب محمد أن ينزل من صهوة جواد أحلامه وأن يهبط من علياء برج طموحاته، ويتحمل المسؤولية الكاملة عن إخوانه اليتامى، وأمه الأرملة، وهو لم يبلغ حد الشباب بعد، لقد كانت العاصفة أقوى من كل آماله،وأعتى من طموحات ولد لا يزال عظمه طريا...

يتجه الولد إلى الشرطة، ومنها إلى العمل الحر، يضرب في الأسواق يتنقل من عمل بسيط إلى عمل آخر كي يرى البسمة تتغشى وجه أمه، ويسمع الضحكة تدوي من إخوانه، ونسي صورة الطبيب والسماعة التي تتدلى على صدره، وصورة عالم الذرة في مختبرات علومه، وأنغمس في زحام الحياة بحثاً عن لقمة ينتزعها من أنياب الفقر ليطعم بها عائلته الكريمة، فاستعاض عن عيادة الأحلام ومكتب الطموحات سيارة بيكاب في سوق السيلة بالشيخ عثمان.

دارت عجلة الزمان وكبر الإخوة وشقوا طريقهم في الحياة كما شق هو طريقه في حياته، فتزوج وأصبح أبا لأربعة أولاد وبنت.

كان مشروعه في الحياة تربية الأجيال، فكما ربى إخوانه ربى أولاده، فغرس في قلوب أبنائه حب الله ورسوله والتعلق بالقرآن الكريم، وتشربوا منه الأخلاق الحميدة والشيم النبيلة، وأرسلهم إلى حلقات تعليم القرآن، فكانت حياتهم بين المدرسة والمسجد حتى أتم الأولاد جميعاً حفظ القرآن ولزموا المصحف وعكفوا على تلاوته وإطالة النظر فيه وتكراره حتى أصبح القرآن أنيسهم وونيسهم وجليسهم، والمسجد مكان راحتهم وموقع سعادتهم. وفي الجانب الآخر كانوا متفوقين في دراستهم يحصدون المراكز المتقدمة.

وقد تقدم اثنان منهم لبرنامج السرد القرآني للمصحف فسردوا القرآن الكريم كاملاً في مجلس واحد دون أي خطأ أو تتبيه أو فتح، وحصد الاثنان جائزة عمرة إلى بيت الله الحرام.

وهكذا لم يضع الله جهد أبيهم، ولا تضحيته ولا تخليه عن أحلامه الوردية، فقد أقر الله عينيه بمثل هؤلاء الأبناء الذي يتمناهم كل أب.
والله يختار للعبد خيرا مما يختار العبد لنفسه.

كتبه أبو زين الوليدي