اخبار وتقارير

الأحد - 09 نوفمبر 2025 - الساعة 04:46 م بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية / محمد المسبحي




حين خرجت رواندا من أهوال الإبادة عام 1994، لم تكن مجرد دولة مدمّرة؛ كانت كومة رماد فوق أرض غارقة في الدماء والكراهية. فقدت مؤسساتها، تمزق نسيجها الاجتماعي، وتلاشى اقتصادها حتى صارت من أفقر دول العالم. ومع ذلك، استطاعت خلال ثلاثة عقود فقط أن تنهض من العدم، لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات الإفريقية نموا، وتتحوّل إلى نموذج يدرس في التخطيط والإدارة والإرادة السياسية. وفي المقابل، يقف اليمن اليوم عند مفترق مشابه بعد سنوات من الحرب والانقسام والدمار، أمام سؤال مصيري..هل يمكن أن تتكرّر المعجزة الرواندية هنا؟!!

في رواندا، بدأ التحول من لحظة إدراك قاسية لا أحد سينقذ البلاد إلا أبناؤها. ومن هذا الإدراك وُلدت رؤية “2020” التي وضعتها الحكومة بعد مشاورات وطنية دامت عامين كاملين. لم تكن الرؤية شعارات، وانما خطة دقيقة بثلاث مراحل زمنية واضحة: قصيرة لاستقرار الاقتصاد وإيقاف الاعتماد على الدعم الخارجي، متوسطة لتطوير الخدمات والبنى التحتية، وطويلة لبناء اقتصاد معرفي قائم على التقنية والتعليم والاتصالات. وبالتوازي، أطلقت الدولة شعار “صُنع في رواندا” لتعزيز الإنتاج المحلي، وروّجت للسياحة بذكاء غير مسبوق حين جعلت أندية عالمية مثل آرسنال وباريس سان جيرمان تضع اسم رواندا على قمصانها. كان ذلك أكثر من تسويق، كان إعلانا أن بلدا كان رمزا للمأساة، صار يقدم نفسه رمزا للحياة.

ما يلفت في التجربة الرواندية ليس المال وانما المنهج. فبينما كانت دول كثيرة بعد الحروب تغرق في خطط أممية مفروضة من الخارج، رفضت رواندا أن تكون رهينة للتمويل الدولي، وأصرت أن يُدار الدعم وفق أجندتها الوطنية لا وفق اشتراطات المانحين وفرضت على المانحين أن يسيروا خلفها لا أمامها، ومزجت بين الحداثة والعادات المحلية في الإدارة والحوكمة. فاستعادت طقوسا قبلية قديمة مثل “إيميهيغو” التي يلزم فيها المسؤول بتعهدات علنية أمام الناس ويُحاسب عليها سنويا، لتصبح أداة حديثة للمساءلة، وجعلت من “أوموشيكيرانو” منصة حوار وطني سنوية يشارك فيها الجميع لمراجعة الأداء الحكومي. هكذا نجحت في تحويل الموروث الشعبي إلى أداة انضباط مدني وإداري، وهو ما لم تفعله أي دولة إفريقية قبلها.

وفي صلب هذه النهضة كانت الحرب على الفساد. فبينما تتسامح كثير من الحكومات الخارجة من الحروب مع الفساد بحجة “الظروف”، اعتبرت رواندا الفساد عدواً داخلياً لا يقل خطراً عن الحرب ذاتها. أعادت هيكلة مؤسسات الدولة، شددت القوانين، وربطت المسؤولية بالنتائج. وبالفعل، تراجعت مستويات الفساد في رواندا إلى أدنى مستوياتها في القارة الإفريقية.

نتائج هذه الرؤية كانت مدهشة: ارتفع الدخل القومي للفرد من 290 دولارا عام 2000 إلى أكثر من 1000 دولار اليوم، وانخفضت نسبة الفقر من 64% إلى 27%، وقفز متوسط العمر المتوقع من 49 إلى 69 عامًا. تحولت البلاد إلى مركز إقليمي للتقنية والخدمات، وانتشر الإنترنت بنسبة تغطية تجاوزت 95%. أما التعليم والصحة فقد صارا حقين مكفولين ومجانيين تقريبًا، واحتلت النساء أكثر من 60% من مقاعد البرلمان، وهي أعلى نسبة في العالم.

لكن التجربة لم تكن خالية من العيوب، فقد انتُقد النظام الرواندي لصرامته المفرطة ومحدودية الحريات السياسية، إلا أن معظم المراقبين يجمعون على أن نجاح التنمية لم يكن صدفة وانما نتاج قيادة واعية، تخطيط دقيق، وانضباط اجتماعي قلّ نظيره.

وعند مقارنة هذا النموذج بواقع اليمن اليوم، تتضح أوجه الشبه والاختلاف. فاليمن، مثل رواندا، خرج من حرب مدمّرة أنهكت المجتمع والبنية والمؤسسات، لكنه لم يمتلك بعد رؤية وطنية موحدة للنهوض. تتنازع الحكومة المركزية والسلطات المحلية على الموارد، ويتشتت القرار بين قوى سياسية متنافسة. في حين جعلت رواندا اللامركزية وسيلة لتسريع التنمية وتقريب القرار من الناس، تحولت اللامركزية في اليمن إلى فوضى مالية وإدارية بسبب غياب النظام والرقابة. والأخطر من ذلك أن الفساد هنا لم يُعامل كعدو بل أصبح شريكا في الحكم.

ولو أراد اليمن أن يتعلم من رواندا، فعليه أن يبدأ من حيث بدأت هي: ببناء مشروع وطني جامع، يضع التنمية في قلب السياسة لا على هامشها، ويربط المسؤولية بالمحاسبة لا بالمحسوبية. المطلوب ليس أموال المانحين ولا وعود الخارج، بل إرادة داخلية تُخرج البلد من ذهنية “نحن ضحايا” وقدمنا شهداء  إلى عقلية “نحن صانعو المستقبل”. فالدعم الخارجي لا يبني دولة وانما الإرادة والإدارة هما ما تفعلان ذلك.

اليمن اليوم يحتاج إلى رؤية مشابهة لـ“رؤية رواندا 2020”، لكن بنكهة يمنية خالصة، تستند إلى واقعه وتنوعه وموارده. رؤية تمتلك الجرأة لتقليص الاعتماد على الخارج، وتنويع الاقتصاد بين الزراعة والخدمات والطاقة، وتفعيل دور المحافظات في التنمية، ومحاربة الفساد كأولوية وطنية، لا كشعار سياسي. ولعل أول خطوة في هذا الطريق هي إدراك أن الحرب ليست نهاية التاريخ بل يمكن أن تكون بداية جديدة.

نهضة رواندا تقول لنا إنّ المعجزات لا تُصنع بالمعونات، بل بالوعي والإدارة. واليمن، رغم كل ما مرّ به، لا تنقصه الموارد ولا العقول، بل ينقصه القرار والإيمان بإمكانية النهوض. فحين تتوفر القيادة التي تملك رؤية وتؤمن بالناس، يصبح المستحيل ممكنا، كما حدث في رواندا قبل ثلاثين عاما.