الوطن العدنية/كتب/الدكتور عوض أحمد العلقمي
وأنت في مدينة الياسمين ، لايفارق أنفك عبق الروائح العطرة ، منها رائحة البن الزكية ، فما إن تتجول في شوارع المدينة حتى تشتم رائحة البن الطيبة من كل شارع ومن كل زقاق بل ومن كل دكان ؛ حتى يخيل لك أنهم يطيبون تلك الشوارع والأزقة والدكاكين والمؤسسات بالبن اليمني الأصيل ، كالبن اليافعي أو المطري أو الحمادي الذي يتميز بالجودة والرائحة العطرة ، فتجد دمشق ليلا ، تفوح منها الروائح الطيبة ، وكأنها منزل عروس من حوطة لحج ، لما تنته بعد من ليالي شهر العسل ، قد انتشرت فيه جزيئات البخور اللحجي ، والتصقت بجدرانه من أعلاه إلى أسفله ، وإذا ما ارتحلت عن منزل العروس تظل ترافقك تلك الروائح الطيبة لأيام ، وهذا مايتكرر معك إذا ماتسوقت ليلا في دمشق إذ تشعر بشدة التنافس بين رائحة البن من جهة ورائحة الياسمين من الجهة الأخرى .... أما إذا ماوصفت لك أخي القارئ شيئا من أخلاق أهل دمشق فربما تتفاجأ أو تعد ذلك ضربا من الخيال ، كنت أنتظر كل صباح أمام منزلي الحافلة التي تقلني إلى الشيخ سعد ثم إلى كلية الآداب ، ومنها إلى محطتي الأخيرة مكتبة الأسد . في صباح اليوم الأول ، وأنا في الحافلة رن جرس هاتفي الخلوي فرديت على المتصل الذي كان من اليمن ، بصوت مرتفع جدا إذا ماقسناه بثقافتهم في دمشق ، أما إذا ماقسناه بثقافتنا في اليمن فإنه صوت طبيعي ، الأمر الذي جعلني أنظر إلى من حولي في الحافلة ، وإذا بي أقرأ في وجوههم آيات الامتعاض وعدم الرضا ، لم أدرك حينها أسباب ماقرأته في وجوههم ، لكنني ومن خلال انتقالي صباح كل يوم في الحافلات تعلمت شيئا من آدابهم ، وتأثرت بالكثير من أخلاقهم ، إذ علمت أنهم لايتحدثون وهم في الحافلات أبدا ، لا مع بعضهم ولا عبر هواتفهم الخلوية ، وإذا ما أراد أحدهم دفع إيجار الحافلة للسائق فإنه يهمس بيده من هو أمامه في ظهره بالنقود ، والأخير بدوره يمد يده إلى الخلف فيأخذ النقود من يد رفيقه دون أن يلتفت ، ثم يعطيها لمن هو أمامه ، وهكذا دواليك حتى تصل إلى السائق ، وهنا يكمن دور الأخير إذ يقوم بالنظر إلى النقود ، فإن كانت تساوي ماهو له فقط ، وضعها في مكان مخصص لها أمامه ، وإذا كانت تزيد على حقه ، أخذ ماهو له وأعاد الزيادة لصاحبها بالطريقة نفسها ، غير أن الأولى تبدأ من الخلف والأخيرة من الأمام ، وهكذا تكون من حين صعودك الناقلة إلى أن تنزل منها في هدوء تام لايتخلل الرحلة صوت ...
أما المساء فقد كان لي برنامج شبه ثابت ، بعد أن أتناول وجبة العشاء و أصلي العشاء ، انطلق إلى متنزه تشرين الذي يقع بالقرب من مكتبة الأسد ، وهناك اختار مكانا ضعيف الإضاءة ، تحيطني فيه أشجار الياسمين ، ثم أطلب أرجيلة ، فتجدني استنشق روائح الياسمين العطرة تارة ، ورائحة المعسل بالنعناع في تارات أخر ، فضلا عن شعوري بالتحليق بعيدا مع صوت كوكب الشرق وموسيقا رياض السنباطي ، وأنا أستمع إليهما عبر السماعات المنتشرة في أرجاء المتنزه .....
للحديث بقية مع ليال في دمشق