الوطن العدنية/كتب/د.عديل الطهيش
في الوقت الذي يتأرجح فيه المواطن في عدن وباقي مدن الجنوب، بين أملٍ ضئيل يتشبث به في لحظات الصبر القصوى، وخيبةٍ تتكرّس يومًا بعد آخر في تفاصيل معيشته القاسية، يطل سالم بن بريك، رجل المال والإدارة، على رأس حكومة مأزومة ترزح تحت ركام الفشل المتراكم والانقسامات والتجاذبات، التي لم تترك مجالًا للإصلاح، إلا من باب الأماني، وبرغم أن تعيينه لاقى ترحيبًا أوليًا لدى شريحة واسعة من المراقبين والشارع على حد سواء، خصوصًا أولئك الذين يبحثون عن أي بصيص أمل يبعث على الطمأنينة في نفق مظلم طويل، إلا أن هذا الترحيب لم يكن بلا شروط، ففي تقديري، كان هذا الترحيب مشروطًا بالفعل لا بالقول، وبالإنجاز لا بالشعارات، وبالقدرة على إحداث فارق ملموس يتجاوز حدود النوايا الطيبة، وعلى ما يبدو ، أن سالم بن بريك لم يأتِ إلى منصبه الجديد وهو غافل عمّا ينتظره، فالرجل، بخلفيته المهنية الطويلة واحتكاكه المباشر بملفات الدولة المالية، يدرك أو هكذا يُفترض حجم التحديات التي تقف كجدار صد أمام أي محاولة إصلاحية؛ من الرواتب المتأخرة إلى العملة المتدهورة، ومن تردي الخدمات في العاصمة عدن إلى الشعور المتزايد في الشارع الجنوبي بأن الجنوب يُحمّل فوق طاقته، دون أن يكون له القرار أو النصيب،ومن خلال متابعتنا لما طرحه في أولى جلسات مجلس الوزراء، بدا واضحًا أن الرجل لا ينوي السير على خطى من سبقوه من رؤساء الحكومات الذين اكتفوا بالصمت أو التبرير، وعلى الرغم من أنه لم يطرح تساؤلات مباشرة حول مسألة توريد الإيرادات، إلا أنني أتساءل هنا، هل يدرك بن بريك وهو الخبير المالي ، أن عدن تورد كل إيراداتها إلى البنك المركزي، بينما محافظات مثل مأرب وتعز لا تزال تحتفظ بإيراداتها؟ وهل يعي أن هذه المفارقة تمثل جوهر الخلل في بنية العلاقة المالية والإدارية داخل الدولة؟ إن الاعتراف بهذه الإشكالية هو الخطوة الأولى لأي إصلاح حقيقي، وإذا ما تحوّلت من مجرد إدراك إلى موقف سياسي واقتصادي عملي، فإنها قد تشكل نقطة انطلاق محترمة نحو تغيير قواعد اللعبة المالية المقلوبة.
ومن وجهة نظري، فإن حديث بن بريك عن ضرورة البحث عن موارد بديلة والاعتماد على الذات مع الاستفادة من دعم الأشقاء، يعكس إدراكًا جزئيًا لحقيقة أن الاقتصاد لن يُبنى من الخارج فقط، بل يجب أن ينهض من الداخل من خلال إدارة رشيدة قادرة على الاستفادة من كل قرش يُجمع، مع شفافية ومحاسبة لا تعرف المجاملة.
وفي السياق ذاته، فإن المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يشارك اليوم بشكل مباشر في إدارة الملفات الحكومية لا يمكنه في رأيي أن يظل في موقع الناقد والمراقب؛ فهو معنيّ بأن يثبت لجماهيره أن المشروع السياسي الذي يحمله قادر على الترجمة الواقعية في حياة الناس، لا سيما على صعيد الخدمات والإدارة والأمن والتنمية، وإذا ما فشل بن بريك لا قدّر الله في إحداث فارق حقيقي، فإن ذلك لن يُقرأ فقط بوصفه فشلًا لرجل تكنوقراطي، بل سيُنظر إليه كفشل لمنظومة كاملة كانت تعِد الناس بأنها البديل الممكن، والمشروع القادم، والخلاص من عبث الشرعية وفسادها.
إنني أؤمن بأننا أمام لحظة مفصلية لا تحتمل التردد؛ لحظة إما أن نكسر فيها القيد الذي كبّل الجنوب لعقود من التهميش والفساد، أو نواصل السقوط في دوامة التكرار البليد لخيبات لا نهاية لها.
ولذا، فإننا نضع املنا في أن يدرك بن بريك، والمجلس الانتقالي الجنوبي من خلفه، أن لا مجال للترف السياسي الآن، ولا مساحة للمراوغة أو الخطابات العامة، فالشعب قد ملّ الانتظار، وبلغ به الإنهاك مبلغًا لم يعد فيه قادرًا على تحمل المزيد، فإن كنتم صادقين وأرجو أن تكونوا كذلك، فلتبدأوا من عدن، من شارعها، من سوقها، من منزل المواطن الذي لا يملك ثمن الدواء ولا يجد عملًا يقيه مذلّة السؤال، ابدؤوا من حيث يحترق الجسد الجنوبي كل يوم في صمت، وإن لم تفعلوا، فإن التاريخ لا يرحم الذين خذلوا شعوبهم مرتين.