الوطن العدنية/فؤاد قائد جُباري
في زمن مشبع بالفوضى ومثقل بالأزمات، تتسلل إلى المجتمعات المنهكة ظواهر غريبة، تبدو في ظاهرها عبثية، لكنها في جوهرها تعكس خللًا عميقًا في الوعي الجمعي، وانهيارًا مقلقًا في منظومة القيم والبدائل. إحدى هذه الظواهر – والتي باتت تنتشر كالنار في الهشيم – هي ما يمكن تسميته بـ "هوس الكنوز"، أو كما أسميها مجازًا "متلازمة الجوع والكنوز"، وهي حالة من اللهاث المحموم وراء وهم الثراء السريع، بدأت في الهامش الشعبي، ثم تمددت حتى طالت بعض رموز الوعي، واليوم تطرق أبواب السلطة ذاتها!
فمنذ سنوات، ومع اشتداد الحرب وتآكل الاقتصاد وغياب فرص العمل، بدأ كثير من الكادحين – وقد أغلقت في وجوههم سبل العيش – يلجؤون إلى البحث في الأودية والشعاب والجبال عن ما يعتقدون أنها "كنوز مدفونة". بعضهم بدافع الفراغ، والبعض الآخر تحت تأثير قصص مروية أو إعلانات تجارية مضللة، لكن الأخطر من كل ذلك هو دخول سماسرة "الوهم الذهبي" على الخط، ممن وجدوا في هذه الظاهرة سوقًا مفتوحة لتصريف أجهزة كشف المعادن بمبالغ طائلة، مستغلين جهل البسطاء وطمع الطامحين.
هذه الممارسات التي بدأت فردية وعشوائية، تحولت اليوم إلى ما يشبه الهستيريا الجمعية، حتى لم يسلم منها بعض المثقفين والدارسين، الذين انساقوا وراء الظاهرة بدافع الطمع أو التقليد، في مشهد يؤشر على فوضى معرفية، واضطراب في بوصلة الوعي، وسقوط في فخ "ظاهرة القطيع".
لكن ما يدعو للدهشة – بل والقلق – هو أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فقد تم تداول معلومات عن يوم أمس عن حادثة في منطقة خلة بمديرية الحصين بمحافظة الضالع، مفادها أن فريقًا مدعومًا بحراسة أمنية وطقم عسكري، حضر إلى أحد الجبال مزودًا بـ"بوكلين" ومعدات ثقيلة للحفر، بحثًا عن كنز مزعوم، والذي بعد تأكدنا أنه حدث بالفعل! هذه المرة لم يكن المشهد من صنع هواة ولا جهلة، بل بدا وكأن هناك غطاء رسمي ضمني، أو على الأقل تغاض فاضح عن ممارسات تعد قانونيًا انتهاكًا للموروث التاريخي، واعتداءً على المعالم والمقابر والأراضي العامة.
وفيما يفترض بعمليات التنقيب الأثري أن تخضع لإجراءات علمية صارمة، تبدأ بالأدلة الوثائقية أو المسح الجيولوجي، وتنتهي بتدخل فرق متخصصة تستخدم (أدوات دقيقة) تحفظ قيمة الاكتشاف، نجد أن البعض يتعامل مع الأمر بمعدات ثقيلة وكأنهم في مهمة لجرف طريق أو حفر خزان ماء، وكأننا لا نتحدث عن تراث إنساني ولا عن ذاكرة وطنية (إن وجدت)!
إن الظاهرة، وإن بدأت بدوافع مفهومة في ظل واقع معيش مترد، إلا أن استمرارها وتوسعها وتحولها إلى سلوك مقبول بل ومحمي – أحيانًا – ينذر بكارثة ثقافية وأخلاقية؛ فالمجتمع الذي يلهث خلف السراب، ويؤمن بالخرافة أكثر من إيمانه بالعلم والعمل، هو مجتمع مرشح للانهيار.
الحلول لا تكون بالزجر الأمني فقط، بل تبدأ من إعادة بناء الوعي المجتمعي، وتوفير البدائل الاقتصادية الكريمة، وسن تشريعات تحمي التراث وتجرم العبث به، إلى جانب تفعيل دور المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية في تحصين العقول، وإحياء قيم الكرامة والاعتماد على الذات.
فمن يبحث عن الكنز في باطن الأرض، غالبًا ما يكون قد فقد البوصلة التي تقوده إلى الكنز الحقيقي في نفسه، في علمه، في قيمته، وفي عمله. أما الدول التي تسمح بتحوي الخرافة إلى سياسة، فإنها تخسر احترام الناس، وتقايض المستقبل بوهم لا وجود له.