عربية وعالمية

السبت - 26 يوليو 2025 - الساعة 03:04 ص بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/متابعات

طال أمد الحرب والإبادة في غزة، حتى قارب عامين، دون فعل جاد يذكر للدول العربية والإسلامية، بل وللعالم الذي يوصف بالعالم الأول، والذي لا تزال الأيام تثبت أنه أول في انتهاك الحقوق، وقلب المعايير، والكيل بعدة مكاييل، فقد وجد أحد قادة الدروز في السويداء من يستجيب لطلبه بالتدخل، فكان ما قام به الكيان الصهيوني من قصف لدمشق، وفرض معادلة سياسية جديدة في سوريا، بينما لم يجد أهل غزة حتى الآن فعلا جادا، ينهي معاناة الناس، التي أصبحت تبث ليل نهار على الهواء مباشرة.

ولا يزال بعض أصحاب الخطاب الديني المحرف للدين ذاته، يخرج عن الموضوع الرئيس، وهو: إنقاذ الجائع، المهدد بالموت قبل ذلك، والميت حاليا وحقيقة بالتجويع، حتى رأينا أجساد الناس جلدا على عظم، رغم وضوح موقف الشرع من حكم ترك الإنسان يموت جوعا، بلا تعذيب، أو حبس، فما بالنا لو كان ذلك عن قصد وعمد؟!

أويس القرني وخوفه من موت أحد جوعا
كان أويس القرني هذا العابد الزاهد، الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى عمر بن الخطاب، إذا لقيه أن يطلب منه الدعاء، فهو مستجاب الدعوة، رغم أنه من الجيل التالي للصحابة، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أويس يخاف خوفا شديدا من أن يكون سببا في هلاك جائع. فكان رضي الله عنه إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح. وكان يقول إذا أمسى هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح. وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول: اللهم من ‌مات ‌جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به.

موقف الشرع ومدارسه الفقهية من القتل بالتجويع
فكيف نظر الشرع الحنيف لمن يسلم جائعا للموت، سواء بحصار من عدو، أو جاع وحيدا، أو احتاج للطعام، ومنعه عنه الناس بعد طلبه له؟ لقد كان حكم الشرع الإسلامي شديدا في هذه المسألة، لأن هذا فعل يؤدي إلى إزهاق أرواح البرآء، ولم يتحدث الشرع عن ديانة الجائع، حتى لو كان حيوانا فهو فعل محرم، يجعل الوزر والإثم معلقا في رقبة من يشارك في الفعل، أو يمارسه، أو يصمت عليه ولديه أي درجة من القدرة على إنقاذه، فلا تعلم الحضارات دينا جعل النار لامرأة حبست قطة، لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تتلقى رزقها بنفسها، سوى الإسلام الذي حكم بذلك، وما نراه في كتب الفقه الإسلامي بمذاهبه الأربعة، نرى حكما غاية في الرعب، لمن يقصر في حق جائع، حتى يموت، فضلا عمن يشارك في ذلك إيجابا أو سلبا.

فعند حديث الإمام الماوردي الشافعي، وهو قاضي القضاة في زمانه، عن متى يضطر الجائع للمقاتلة لأجل الحصول على غذائه، وحكم من يمنع عنه الطعام حتى يموت، قال: “والحال الثانية: أن لا يقدر على أخذه، ولا على قتاله عليه، فمالك الطعام عاص بالمنع، ومعصيته إن أفضت إلى تلف المضطر أعظم، لكن لا يضمنه بقود ولا دية؛ لأنه لم يكن منعه فعلا يتعلق به الضمان.

ولو قيل: إنه يضمن ديته كان مذهبا؛ لأن الضرورة قد جعلت له في طعامه حقا، فصار منعه منه كمنعه من طعام نفسه، وهو لو منع إنسانا من طعام نفسه حتى ‌مات ‌جوعا ضمن ديته، كذلك إذا منعه من طعام قد صار حقه متعلقا به وجب أن يضمن ديته.

والحال الثالثة: أن لا يقدر المضطر على أخذه إلا بقتاله عليه، فله أن يقاتله عليه، وهل يجب عليه أن يقاتله حتى يصل إلى طعامه أم لا على وجهين ممن أريدت نفسه هل يجب عليه المنع منها:
أحدهما: يجب عليه أن يقاتله؛ ليصل إلى إحياء نفسه بطعامه، كما يجب عليه أكل الميتة لإحياء نفسه بها.

والوجه الثاني: أن القتال مباح له، وليس بواجب عليه؛ لأن مالك الطعام لا ينفك في الأغلب من دين أو عقل يبعثه كل واحد منهما على إحياء المضطر بماله، فجاز أن يكون موكولا إليه، وخالف أكل الميتة في الوجوب؛ لأنه لا سبيل إلى إحياء”.

فقيه حبس في بئر يتحدث عن الموت بالتجويع
أما المذهب الحنفي فكان من أقوال فقهائه نفس الاتجاه، فقال الإمام السرخسي: “(قال ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز فيه عن الخروج والطلب)، وهذه المسألة تشتمل على فصول:
أحدها: أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على من يعلم أنه يطعمه مقدار ما يتقوى به على الخروج، وأداء العبادات إذا كان قادرا على ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو حتى إذا مات، ولم يطعمه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعا في المأثم، لقوله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل ‌مات ‌جوعا بين قوم أغنياء، فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله.

فإذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه، ولكنه قادر على الخروج إلى الناس فيخبر بحاله ليواسوه ويفترض عليه ذلك؛ لأن عليه أن يدفع ما يزيل ضعفه بحسب الإمكان والطاعة بحسب الطاقة، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين.

وهو نظير الأسير، فإن من وقع أسيرا في يد أهل الحرب من المؤمنين وقصدوا قتله، يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك، وإلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين بحصول المقصود، ولا فرق بينهما في المعنى، فإن الجوع الذي هاج من طبعه عدو يخاف الهلاك منه بمنزلة العدو من المشركين”.

والعجيب أن السرخسي صاحب هذه العبارات المهمة، كان مسجونا في بئر، حيث حبسه السلطان في بئر عدة سنوات، وكانوا يدلّون له الطعام في البئر، وسمحوا له كل يوم بساعة يملي فيها على تلامذته من علمه، فكان طلبة العلم يجتمعون في هذه الساعة، فيملي عليهم، ومما أملاه كتابه الذي نقلنا عنه، أي: أن هذا الفقيه كتب هذا الكلام وهو محبوس في بئر من السلطان، وقد كان يملي ويختم بعض الأبواب، بالدعاء له بالفرج، والخروج من سجنه من البئر!!

الحنابلة والسلفية والصوفية والفلاسفة ضد القتل بالتجويع
والرأي نفسه نراه عند بقية المذاهب الفقهية، فالحنابلة حين تحدثوا عن أنواع القتل الذي يوجب القصاص من القاتل، جعلوا منه القسم السادس، وهو: إِذا حبسه ومنعه الطعام، أو الشراب حتى ‌مات ‌جوعًا أو عطشًا في مدة يموت في مثلها غالبًا، فعليه القود، (أي: القصاص منه بالإعدام)، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال، فإذا عطشه في شدة الحر مات في الزمن القليل، وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا في زمن طويل، فيعتبر هذا فيه، فإن كان في مدة يموت في مثلها غالبًا ففيه القود، وإن كان في مدة لا يموت في مثلها غالبًا فهو عمد الخطأ.

وقال الإمام الغزالي الصوفي الشافعي الفيلسوف: “ولو حبسه وجوعه حتى مات وجب القصاص. ولو كان به بعض الجوع وحبسه حتى ‌مات ‌جوعا، فإن علم جوعه لزمه القصاص، كما لو ضرب مريضا ضربا يقتل المريض دون الصحيح، وإن كان جاهلا بجوعه وجب القصاص في أحد القولين، فإن لم يوجب القصاص وجب كل الدية في قول، ونصفها في قول إحالة للهلاك على الجوعين”.

لقد تعمدت هنا تعدد النقول، بتعدد المدارس، لتكون هذه النصوص حجة دامغة لمن يتهربون من المسؤولية، ممن ينتسبون لهذه المدارس الفكرية والفقهية والدينية، فكلها بلا استثناء ترى خذلان الإنسان الذي يقتل بالتجويع جريمة دينية، لا تعفي القائم بالجريمة، ولا المتفرج الذي يملك العون من الإثم في الدنيا والآخرة.