مقالات وآراء

الإثنين - 29 ديسمبر 2025 - الساعة 04:24 م بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/مقال لـ”محمد أحمد العولقي”


واهمٌ من يعتقد أن جغرافيا الجنوب مجرد مساحة للمناورة، أو ساحة لترتيب التوازنات الإقليمية العابرة؛ فخلف كل تلة ومنعطف في أرض الجنوب يقف شعبٌ صلب، لم تكسره سنوات الحرب الضروس، وعجزت سياسات "التجويع الممنهج" عن ترويض إرادته، رغم أنها استهدفت انتزاع تنازلات سيادية مقابل لقمة العيش. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد "أزمة سياسية" عابرة، بل هو اختبار حقيقي لإرادة البقاء، ومواجهة صريحة مع مشاريع "الهيمنة البديلة" التي تحاول إعادة هندسة الخارطة بعيداً عن تطلعات أصحاب الحق الحقيقيين.

إن ما يُصاغ اليوم في أروقة مسقط تحت مسمى "الاتفاق الرباعي" – والذي يجمع في توليفة مريبة بين قوى إقليمية كأطراف ضامنة، وسلطة صنعاء كطرف مستفيد – يتجاوز في أبعاده مفهوم التسوية التقليدية، ليقترب من محاولة "تصفية سياسية" شاملة ومكتملة الأركان. تكمن الخطورة في سعي أطراف الإقليم لتبريد صراعاتها الكبرى بوقود محلي، عبر تقديم مقدرات هذه الجغرافيا الحيوية كقرابين على مذبح المصالح المتبادلة، في محاولة بائسة لشرعنة نفوذ أدوات طهران وتثبيت حضورها في خاصرة الإقليم، تحت غطاء "سلام" يفتقر لأدنى مقومات الاستدامة والعدالة.

لكن ما كشفته تطورات الساعات الثماني والأربعين الماضية قد قلب الطاولة تماماً على المراهنين؛ فالواقع أعلن بوضوح سقوط "شرعية الإملاءات العابرة للحدود". إن اليقظة العسكرية والسياسية الاستثنائية التي أبداها المجلس الانتقالي الجنوبي، بالتوازي مع التناغم الميداني المحكم مع القوى الوطنية في جبهة الساحل الغربي، شكلت "جدار صد سيادي" بعث ببرقية حاسمة للأطراف الدولية مفادها: "الأرض تتحدث لغة أهلها، ولا سيادة مستدامة لمن لا يملك الثقل الحقيقي فوق التراب".

هذا التنسيق المتقدم بين (عدن والساحل) يثبت أن القوى الحية قد استوعبت الدرس، وقررت أن "فيتو الميدان" هو الرد الشرعي الوحيد على "تفاهمات الغرف المغلقة". إن الرهان على تفاهمات ديسمبر 2025 لفرض واقع مالي وإداري ينتقص من استقلالية البنك المركزي في العاصمة عدن، أو يسعى لتسليم مفاتيح الاقتصاد لـ "وكلاء صنعاء"، يمثل مخاطرة استراتيجية وانتحاراً دبلوماسياً ستتحطم أمامه طموحات المهرولين نحو الصفقات غير المكتملة.
المعطيات المتسارعة تؤكد أننا اليوم أمام "لحظة الحسم الاستراتيجي"؛ حيث قررت القوى الممسكة بالأرض أن الجاهزية هي الضامن الوحيد لمنع تمرير أي تسويات تُبرم بعيداً عن تضحيات الشهداء التي روت جغرافيا الجنوب وثغور الساحل. إن هذا "المحور السيادي" يرفض بشكل قاطع تحويل الجغرافيا إلى "ساحة مقايضة" إقليمية، ويتأهب للتعامل مع أي محاولات لانتزاع السيادة الإدارية على المواقع الحيوية والموانئ الاستراتيجية التي تمثل شريان الحياة للملاحة الدولية.

ومع تزايد الضغوط، يتجه الواقع نحو ضرورة الحسم؛ فإما أن يستجيب المجتمع الدولي لإرادة القوى الفاعلة على الأرض، أو أن يفرض الميدان كلمته بعيداً عن الاتفاقات الدبلوماسية الهشة التي لا تراعي حقائق التاريخ.

ختاماً، إن الرهان على صمت الجنوب هو المسمار الأخير في نعش اتفاقات مسقط المترنحة. فليعلم الجميع أن الخرائط التي تُرسَم بمداد الأوهام في القصور، لن تصمد أمام إرادة الأحرار في الخنادق. إن السيادة الوطنية ليست سلعة في سوق النخاسة السياسية، والمستقبل لن يكتبه إلا من يمتلك "ثلاثية القوة": الأرض، والطلقة، والقرار. ومن يظن أن "مقصلة الاتفاقات" ستمر فوق الرؤوس، فعليه أن يدرك أن زمن الإملاءات قد ولى، وأن الأرض قد استعدت لترسم خارطتها الأخيرة بمداد الكرامة.. والميدان هو الحكَم.