اقتصاد

الثلاثاء - 30 ديسمبر 2025 - الساعة 12:14 ص بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/متابعات


لأكثر من نصف قرن، لم تكن الليرة السورية مجرد وسيلة تبادل، بل تحولت إلى مساحة رمزية لحضور السلطة، تحمل على أوراقها وجوه حافظ وبشار الأسد، وترافق السوري في تفاصيل حياته اليومية، من المدرسة إلى السوق، ومن الدوائر الحكومية إلى حافظة النقود.

اليوم، تُطوى هذه الصفحة للمرة الأولى منذ 50 عاماً، مع إعلان إصدار عملة سورية جديدة خالية من صور آل الأسد، في خطوة تتجاوز الشكل النقدي إلى تفكيك أحد أكثر رموز المرحلة السابقة حضوراً في الوعي الجمعي.

الهتاف الأشهر للثورة السورية، "إجاك الدور يا دكتور"، انطلق من حناجر أطفال درعا قبل أكثر من عقد، في مواجهة طبيب سابق حكم البلاد قرابة ربع قرن، وقادها خلال حرب امتدت 14 عاماً، أنهكت الاقتصاد، ودفعت الليرة السورية إلى أحد أسوأ مستوياتها التاريخية.

مصرف سوريا المركزي أعلن طباعة عملة وطنية جديدة من ست فئات، خالية من الصور والرموز السياسية، لتودّع الليرة رسمياً صور حافظ الأسد ونجله بشار، في تحول رمزي غير مسبوق منذ سبعينيات القرن الماضي.

وقال حاكم مصرف سوريا المركزي عبدالقادر الحصرية إن التصميم الجديد يعكس هوية وطنية جامعة، مستوحاة من التاريخ والثقافة السورية، بعيداً عن تقديس الأشخاص، مؤكداً أن العملة الجديدة ليست مجرد أرقام، بل رسالة سياسية-اقتصادية عن مرحلة مختلفة.

اقتصادياً، لا يُنظر إلى إصدار العملة الجديدة كحل سحري لأزمة الليرة، بل كخطوة ذات بعد "نفسي" في المقام الأول، تهدف إلى إعادة بناء الثقة المنهارة بين المواطن والعملة الوطنية، بعد سنوات من التدهور الحاد.

فقبل اندلاع الحرب عام 2011، كان الدولار يعادل نحو 50 ليرة سورية، ثم واصلت العملة انحدارها مع الحرب والعقوبات، لتلامس 15 ألف ليرة للدولار، قبل أن تستقر حالياً فوق مستوى 11 ألفاً بقليل.

وخلال هذه السنوات، اضطر السوري إلى حمل "أكوام من النقد" تحمل صورة الأسدين، سواء على ورقة الألف لحافظ الأسد، أو ورقة الألفين التي حملت صورة بشار، في مشهد يومي لعملة فقدت قيمتها وهيبتها.

العملة السورية الجديدة
تعكس أزمة الليرة واقع الاقتصاد السوري الذي يعاني من ضعف حاد في موارده. فبحسب تقديرات غير رسمية، لم يتجاوز احتياطي النقد الأجنبي عند رحيل النظام السابق نحو 200 مليون دولار، إلى جانب مخزون ذهب يُقدّر بنحو 26 طناً فقط.

وتراجعت الصادرات بسبب إغلاق المصانع، وتوقفت صادرات النفط بفعل العقوبات، فيما انهارت السياحة مع تدهور الأمن وتدمير مواقع أثرية وبنى خدمية. وحتى تحويلات المغتربين، التي شكّلت تقليدياً شرياناً للعملة الصعبة، تراجعت مع تفكك العائلات السورية واستقرار أجيال كاملة خارج البلاد.

قصة "أمجد"، الطفل السوري البالغ من العمر 13 عاماً، تختصر واقع جيل كامل وُلد خارج سوريا، يعيش أمجد في مدينة السادس من أكتوبر بمصر، ويتعامل بالجنيه المصري، ولا يعرف الليرة السورية إلا من أوراق قديمة يحتفظ بها والده منذ هجرته قبل 14 عاماً.

بالنسبة لهذا الجيل، الليرة ليست عملة يومية، بل ذكرى منفى، وصورة وطن لم يُحسم بعد موعد العودة إليه.

ضمن تفاصيل الإصدار الجديد، أكد مصرف سوريا المركزي أن الليرة الجديدة ستُطرح بعد حذف صفرين من قيمتها الاسمية، بحيث تعادل كل 100 ليرة قديمة ليرة واحدة جديدة، في خطوة تهدف إلى تسهيل التعاملات النقدية، دون أن تعني تحسناً مباشراً في القيمة الحقيقية للعملة.

العملة السورية الجديدة
وأوضح الحصرية أن العملة ستُطبع لدى أكثر من جهة لضمان الجودة والأمان، مع سحب تدريجي للفئات القديمة، وضبط صارم للسيولة لمنع التضخم أو المضاربات.

يرافق إطلاق العملة الجديدة حزمة إجراءات نقدية لضبط الكتلة النقدية، واستبدال الأوراق التالفة، وتحسين انسيابية التداول دون توسيع فعلي للعرض النقدي.

ويعوّل المصرف المركزي على أن تسهم هذه الخطوات في تحسين صورة الليرة، وتقليل التعامل بالأوراق المزورة أو المهترئة.

نحو 90% من السوريين يعيشون اليوم تحت خط الفقر، وسيتعاملون قريباً مع ليرة جديدة لا تحمل صور الأسدين، لكنها ما تزال مثقلة بسنوات الحرب والانهيار الاقتصادي.

العملة الجديدة قد تفتح نافذة أمل، لكنها تذكير أيضاً بأن تغيير الورقة أسهل من تغيير الواقع، وأن استعادة قيمة الليرة لن تتحقق إلا بإصلاح اقتصادي عميق، وإعادة إنتاج الثقة، قبل أي تصميم جديد.

إزالة صور آل الأسد من العملة السورية ليست مجرد تعديل فني، بل فصل رمزي بين اقتصاد منهك ومرحلة سياسية انتهت، إنها لحظة محمّلة بالمعنى، لكنها تضع السوريين أمام سؤال أعمق: هل تكفي العملة الجديدة لطي صفحة الماضي، أم أن الطريق ما زال أطول بكثير؟.