الوطن العدنية/المصدر أونلاين
في الذكرى العاشرة لتحرير عدن، تستعيد المدينة صفحات مشرقة من تاريخها، حيث سطّر أبناؤها ملحمة بطولية خالدة في معركة الكرامة، لكن، كما هو الحال مع كل الذكريات العظيمة، تحمل في طياتها وجعًا لا يمكن تجاهله، فبينما يحتفي العدنيون بهذا الحدث التاريخي، يجدون أنفسهم في مواجهة واقع صعب يثقل كاهلهم، من تهميش وإقصاء وملاحقة لأبطال المقاومة إلى أزمات اقتصادية وخدمية خانقة تعصف بالمدينة التي أعلنت عاصمة مؤقتة للبلاد.
فبعد سنوات من النصر، بات كثير من أولئك الذين قدموا أرواحهم فداءً لعدن خارج المشهد، مستبعدين ومطاردين، فيما استفادت قوى لم يكن لها دور في التحرير من مكاسب النصر.
في هذا السياق، يحاور "المصدر أونلاين" القيادي في المقاومة الشعبية، مفيد شكري، الذي كان في الصفوف الأمامية خلال معركة التحرير، بدءً من الدفاع عن مديرية المعلا إلى استعادتها، مرورًا بتحرير مطار عدن، وقيادته اقتحام القصر الرئاسي في معاشيق، مقر الحكومة حالياً، ثم استعادة بقية المديريات، حتى امتدت بطولاته إلى أبين وما بعدها مطارداً مع رفاقه فلول الحوثيين.
في هذه المقابلة، نغوص معه في تفاصيل تلك المرحلة الفارقة، ونتتبع أثرها على حاضر المدينة ومستقبلها، في ظل المتغيرات التي أعادت ترتيب المشهد السياسي والأمني، وأعادت طرح السؤال: أين هم أبطال التحرير اليوم؟
نص المقابلة:
- بدايةً، نود أن نستذكر معكم تلك الأيام الخالدة.. كيف بدأت المقاومة الشعبية في عدن ضد مليشيا الحوثي؟
الحقيقة أن تلك الأيام ستظل محفورة في ذاكرتنا إلى الأبد، فقد كانت أيامًا استثنائية، شهدت تضحيات جسيمة وروحًا نضالية عالية من أبناء عدن بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم، ولم يكن هناك حزب أو جماعة، بل كان هناك عدنيون يدافعون عن مدينتهم، عن بيوتهم، عن كرامتهم.
عندما بدأ العدوان الحوثي، لم يكن لدينا سلاح متطور ولا دعم خارجي، كنا مجرد مدنيين، معلمين وطلابًا وعمالًا، لكننا كنا نمتلك الإرادة والإيمان العميق بأن علينا الدفاع عن عدن مهما كلف الأمر، وتسلحنا حينها بما توفر لدينا من إمكانيات بسيطة، من سلاح شخصي، وتدريب محدود، وكان بعض من لديهم خبرة عسكرية يعلمون الشباب طريقة استخدام السلاح في المدارس والشوارع.
ومع بداية الاجتياح الحوثي لم يكن هناك تحالف، ولم تكن هناك شرعية أو أي جهة سياسية، كان هناك فقط أبناء عدن، ووقف الجميع صفًا واحدًا، لا طائفية ولا مناطقية، فقط عدن وأبناؤها في مواجهة العدو.
وحينها كان كل بيت جزءً من المعركة، فالأمهات كنّ يطبخن للمقاتلين، كبار السن كانوا يدعون في المساجد، وأصحاب المال دعموا بما استطاعوا، بينما الشباب وقفوا في الخطوط الأمامية للدفاع عن المدينة.
كانت المعركة أكبر من مجرد قتال، كانت ملحمة من التكافل والتآزر، حيث تكفل رجال المال بتوفير الطعام والملابس، وكان الخيرون يفتحون بيوتهم للمرابطين، لم تكن مجرد مقاومة بالسلاح، بل مقاومة بروح الوحدة والتضامن، وهذا ما جعلنا ننتصر في النهاية.
- كيف كان تفاعل أبناء عدن مع دعوات المقاومة؟ ومن شكل نواتها الأولى؟
عند الحديث عن تفاعل أبناء عدن مع دعوات المقاومة، لا يمكن إلا الإشادة بالوحدة التي تجلت بين مختلف فئات المجتمع، حيث اجتمع أبناء عدن بمختلف انتماءاتهم وأطيافهم على قلب رجل واحد لمواجهة العدوان الحوثي، لقد توحدوا تحت قيادة قائد المنطقة العسكرية الرابعة العميد علي ناصر هادي – رحمه الله – الذي استشهد في معركة الدفاع عن عدن، وكان هناك ميثاق وقّعه عدد كبير من شباب وقادة المقاومة من مختلف المناطق، وهو لا يزال محفوظًا حتى اليوم، ويحمل أسماءهم بعضهم استشهدوا وآخرون لا زالوا على قيد الحياة، وكذلك أولئك الذين اضطروا لمغادرة عدن لاحقًا بسبب الظروف التي فرضتها المرحلة.
أما عن الشريحة التي شكلت نواة المقاومة، فقد كانت من مختلف الفئات، فمنهم العسكريون السابقون وأصحاب الخبرة القتالية، ومنهم الشباب المدنيون، سواءً كانوا معلمين أو طلابًا أو موظفين. وجميعهم التحقوا بصفوف المقاومة بروح وطنية خالصة.
وبعد أن بدأ الملتحقون بالمعركة من أبطال الجيش الوطني التدخل، كان هؤلاء المقاومون هم من تولى تدريب وتأهيل المتطوعين، حيث ساهموا بشكل كبير في تنظيم الصفوف وتعزيز الجبهة القتالية ضد الميليشيات الحوثية.
لقد كانت المقاومة في عدن نموذجًا للتماسك الشعبي، حيث لم يكن القتال مقتصرًا على حملة السلاح فقط، بل كان هناك دور بارز للأهالي. فالأمهات كنّ يعددن الطعام للمقاتلين، والشيوخ كانوا يسهرون على الدعم اللوجستي، والتجار والميسورون قدّموا ما يستطيعون لدعم صمود المقاومة، وكانت عدن كلها على قلب رجل واحد، وهذه الروح الجماعية هي التي صنعت النصر في النهاية.
- ما أبرز المحطات التي شهدتها معركة تحرير عدن؟ وكيف تم توفير السلاح والذخائر عند انطلاق المقاومة؟
انطلقت المقاومة في عدن بإمكانات بسيطة جدًا، حيث كان البعض يحمل أسلحة شخصية، ورغم شح الموارد، كان الإيمان بالقضية أقوى سلاح في أيدي الشباب الذين واجهوا العدوان الحوثي بصدورهم العارية، وكانوا من مختلف الفئات، فمنهم المهندس والمعلم والعامل والموظف، لكنهم جميعًا وقفوا في صف واحد، وقدموا أرواحهم ببسالة سيخلدها التاريخ.
أما فيما يخص توفير السلاح والذخائر، فقد لعبت عدة جهات دورًا بارزًا في ذلك، وكان لأئمة المساجد والشخصيات الاجتماعية النصيب الأكبر في الحث على تجهيز الشباب ومدّهم بالمعدات اللازمة، ولا يمكن نسيان الدور المحوري للشيخ (سمحان) الراوي – رحمه الله ، الذي كان من أبرز الداعمين للمقاومة، والذين يحثون ويعملون بجهد من أجل توفير الذخائر والسلاح والوقود عبر البحر، لا سيما خلال فترة الحصار الذي استمر أكثر من 45 يومًا على مناطق كريتر، المعلا، القلوعة، والشيخ إسحاق.
لم يكن الدعم مقتصرًا على الشخصيات المعلنة، بل كان هناك الكثير من التجار ورجال الأعمال الذين دعموا المقاومة سرًا، مقدمين المال والسلاح والطعام بعيدًا عن الأضواء، وأسماؤهم محفوظة عند الله.
كما شهدت المقاومة في بدايتها جهودًا كبيرة في الجانب المعنوي، حيث كان للتوجيه والإرشاد دور رئيسي في تحفيز الشباب وحشدهم لصد العدوان، وهنا لا يمكن إغفال الدور الذي قام به الشهيد شوقي الكمادي – رحمه الله – الذي كان رمزًا في التحشيد والتعبئة والتوجيه، سواء من خلال المنابر أو بين الشباب في الميدان، وبعد أن أدى واجبه في المقاومة، عاد إلى رسالته التعليمية، لكن الأيدي الغادرة لم تحتمل وجوده، فاغتالته (في فبراير 2018)، في محاولة لإسكات صوته وإطفاء النور الذي كان يحمله.
كانت معركة تحرير عدن ملحمة بكل المقاييس، فقد واجه المقاومون حصارًا خانقًا وقلة في الإمكانيات، لكن الإصرار والتكاتف الشعبي جعلا النصر ممكنًا، ليكون ذلك درسًا خالدًا في تاريخ المدينة.
- من هي أبرز الوجوه التي كانت تشكل القيادة الميدانية للعمل العسكري على الأرض؟
كان هناك العديد من القادة الميدانيين الذين لعبوا دورًا محوريًا في إدارة المعارك على الأرض، بعضهم لا يزال موجودًا في عدن، بينما غادر البعض الآخر إلى خارج البلاد، ورغم دورهم البطولي في الدفاع عن المدينة، لا يمكننا ذكر أسمائهم حفاظًا على سلامتهم، نظرًا للوضع الأمني المعقد في عدن اليوم.
لكن ما يمكن تأكيده هو أن هؤلاء القادة كانوا من مختلف التوجهات والانتماءات، اجتمعوا تحت راية واحدة، هدفهم الدفاع عن مدينتهم وأهلهم، وكانوا أصحاب خبرة عسكرية ومدنية، فمنهم من كان ضابط سابق، ومنهم من جاء من صفوف المقاومة الشعبية مدفوعا بروح التضحية والفداء. نسأل الله أن يحفظهم جميعًا، فهم جزء من تاريخ هذه المدينة، وحين يحين الوقت المناسب، سيتحدث التاريخ عن أسمائهم ودورهم في تحرير عدن بكل فخر.
- أين ذهبت تلك الوجوه، وكيف تم إخراجها من المشهد؟
الوجوه التي أسست المقاومة الشعبية، وشاركت في بناء الجيش الوطني، وساهمت مع التحالف في تحرير عدن من مليشيات الحوثي، مصيرها اليوم يتوزع بين ثلاثة اتجاهات: شخصيات خُلِّدت عند ربها في مقعد صدق، بعد أن قدّمت أرواحها دفاعًا عن الأرض والعِرض، كما هو حال الشيخ الراوي، والشيخ شوقي الكمادي، وعبدالله الصبيحي، وجعفر محمد سعد، وقائد المنطقة الرابعة –رحمهم الله جميعًا– وغيرهم من القادة والمجاهدين الذين لن ينسى التاريخ تضحياتهم. ومن بقي منهم على قيد الحياة، فكثيرون منهم باتوا خارج عدن، بل وحتى خارج اليمن، لا يستطيعون العودة خوفًا من بطش القوى المسيطرة حاليًا، التي تسلطت على رقاب أبناء عدن، هؤلاء الرجال، الذين كانوا بالأمس القريب في الميادين يقاتلون لتحرير مدينتهم، أصبحوا اليوم مشردين، ممنوعين من العودة إلى بيوتهم، ووظائفهم، ومدارسهم، وحياتهم الطبيعية، تحت تهديد الخطف أو الاغتيال.
وهناك أيضًا من لا يزال مصيره مجهولًا، محتجزًا في سجون سرية، لا نعلم عنه إن كان حيًّا أم وافته المنية، مثل الأستاذ زكريا قاسم –فرّج الله كربه وكشف مصيره– (مخفي في سجون المجلس الانتقالي بعدن منذ 2018)، وغيره من الأحرار الذين غُيّبوا قسرًا لأنهم رفضوا الخضوع أو المساومة على قضاياهم.
أما بعض الذين يظهرون اليوم في المشهد، فكثير منهم لم يكونوا ضمن صفوف المقاومة الحقيقية يوم كانت عدن تنزف وتحتاج لمن يدافع عنها، بل ظهروا بعد التحرير، وحلّوا محل أولئك الذين قدموا التضحيات الحقيقية، ليتم إقصاء رجال الميدان الحقيقيين وإبعادهم عن المشهد تمامًا، لكننا على يقين أن عدن لن تنساهم، ولن يكون مصيرها بيد من يريدون الاستئثار بها، فالمبعدون سيعودون، والمظلومون ستظهر حقيقتهم، والمدينة ستلفظ من لا يستحقونها، فعدن كانت وستظل وفية لأبنائها الحقيقيين.
- كيف تمت عملية تصفية المقاومين الحقيقيين وتسليم المدينة لآخرين؟
للأسف، كان حل مجلس المقاومة الخطوة الأولى في مخطط تصفية المقاومين الحقيقيين، وإبعادهم عن المشهد، وتسليم المدينة لميليشيات جاءت من القرى والأرياف، لا علاقة لها بعدن، ولا بتضحيات أبنائها، ولا حتى ببناء مستقبلها. ولم يكن الهدف فقط إخراج المقاومين الذين ضحوا من أجل عدن، بل كان أيضًا تمهيدًا لفرض واقع جديد تتحكم فيه قوى لا تمتلك أي انتماء حقيقي لهذه المدينة.
ولو أن من سيطروا بعد ذلك كانوا حريصين على الحفاظ على النصر، لكانوا سارعوا إلى إعادة بناء عدن وتعويضها عن حجم الدمار الذي لحق بها، سواء بسبب عدوان الحوثيين أو نتيجة الضربات التي استهدفت منشآتها الحيوية، ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، فقد تحول الأمر إلى تآمر واضح ضد عدن وأبنائها، وتجاهل تام لكل التضحيات التي قُدمت.
اليوم، بعد كل هذه السنوات، نرى نتيجة هذا الإقصاء المتعمد لأبناء عدن الحقيقيين، فالوضع في المدينة يزداد سوءً، لا كهرباء، لا ماء، لا طرقات، ولا أي خدمات أساسية، بينما تتحكم بها عقلية دخيلة لا تفهم طبيعتها ولا تعنيها معاناة أهلها، وكل ذلك كان نتيجة لإخراج المقاومين من المشهد، وتسليم عدن لمن لم يكن لهم أي دور في معركة تحريرها.
- كيف كان التنسيق بين المقاومة الشعبية وقوات التحالف العربي خلال المعركة؟
في البداية، لم يكن هناك أي تنسيق يُذكر بين المقاومة الشعبية وقوات التحالف العربي، فلم تكن هناك شرعية، ولا جيش نظامي، ولا أي دعم عسكري، بل كانت المواجهة تعتمد بالكامل على شباب عدن من مختلف الأحياء، الذين خرجوا للدفاع عن مدينتهم بصدور عارية، وبأسلحة بسيطة، وأحيانًا بلا سلاح سوى إيمانهم بعدالة قضيتهم.
واستمرت هذه المرحلة الصعبة لشهرين أو ثلاثة، قبل أن يبدأ التحالف العربي بالتدخل التدريجي، لكن ما حدث بعد ذلك، كان غريبًا، إذ تم تهميش المديريات الداخلية مثل المعلا، التواهي، القلوعة، كريتر، وتركت لتسقط بيد الحوثيين بشكل غريب رغم وجود التحالف. وفي المقابل، حُشر الناس في المديريات الأخرى، بعد الجسر، وهناك بدأ التحالف في عمليات التدريب والتجهيز، وبناء قوات جديدة، لكنها كانت مفككة، كل مجموعة تتبع جهة أو شخصية معينة، ولم يكن هناك جيش موحد يخضع لقيادة واحدة.
ومع بدء معركة تحرير عدن، تم تنفيذ عمليات تمشيط عبر الطيران، واستخدام السلاح الثقيل لدعم التقدم، السلاح الثقيل ظل في يد التحالف، ولم يتم تسليمه للمقاومة إلا بشكل محدود، وكانت هناك تعقيدات سياسية في بعض مراحل التحرير، بدت وكأنها تعيق التقدم، وأثارت الشكوك حول وجود تآمر على المدينة، وتأخير متعمد للحسم، رغم شجاعة الشباب الذين كانوا يتقدمون بكل بسالة في مختلف الجبهات.
قائد معركة تحرير عدن، التي سُمّيت بـ"معركة السيف الذهبي"، كان القائد عبدالله الصبيحي، وقد تم تعيينه بقرار مباشر من الرئيس عبدربه منصور هادي في ذلك الوقت، ليقود قوات الجيش والمقاومة الشعبية نحو استكمال التحرير، بإسناد مباشر من طيران التحالف والقوات المشاركة على الأرض.
- لماذا استهدف المقاومون الحقيقيون.. لصالح من تم ذلك؟
بينما كان المقاومون هدفهم تحرير مدينتهم من مليشيا الحوثي واستعادة الاستقرار كان هناك قوى خارجية لديها مخطط آخر لتغيير خارطة القوى، والسيطرة على المدينة وعلى مساحة واسعة من الشواطئ والجزر اليمنية وكانت تدرك أنها لن تحقق ذلك الهدف إلا يإيجاد أدواتها الخاصة مستغلة التباينات والنزعات التشطيرية التي كانت موجودة لدى تيار محدود في مدينة عدن، ولهذا رأت أن تستقدم قوى من خارج المدينة أكثر استعداداً لخدمتها على حساب المدينة وأهلها.
وبالطبع استبدال هذه القوى استدعى إزاحة المقاومين الحقيقيين سواءً بالتصفيات أو بإجبارهم على مغادرة المدينة.
ومن ناحية أخرى فإن هذه القوى التي جاءت للمساعدة اعتبرت اليمن غنيمة، وأن لهم الحق في فرض وصايتهم عليه وعلى أهلها، وهم من خططوا، ومولوا، ونفذوا هذه التصفيات والاغتيالات ضد المقاومين الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله، ورفضوا التنازل عن عدن ورفضوا أن يكونوا أدوات في مشروع تدمير وطنهم، رغم المحاولات التي استهدفتهم بكل شيء من المال والإغراءات والمناصب، لكن هؤلاء المقاومين الأبطال رفضوا أن يكونوا جزءً من عملية تصفية حسابات داخلية أو مشاركين في بناء خريطة جديدة لعدن وفقًا لمخططات الخارج.
ومن بين هؤلاء الأبطال، كان على رأسهم الأستاذ نايف البكري "أبو جهاد"، وغيره الكثير الذين استمروا في دعم المقاومة الشعبية وعلى نهجها.
*المصدر أونلاين