الوطن العدنية/تقرير_السميفع
في الوقت الذي تصنف فيه أحدث التقارير الدولية اليمن كثاني أفقر دولة في العالم، مع استمرار تدهور المؤشرات الإنسانية، تظهر وثائق وبيانات مالية حجم التمويل الضخم الذي يتلقاه بعض المراكز البحثية تحت مظلة "دعم السلام". تثير هذه البيانات تساؤلات حول جدوى هذا الإنفاق وفعاليته، في وقت تشتد فيه الحاجة إلى مشاريع تنموية وإنسانية ملموسة. يحاول هذا التقرير، من خلال تتبع البيانات الرسمية، فك تشابك هذه المعادلة الصعبة.
التمويل الهولندي: أرقام مفاجئة واتجاه متراجع
وفق البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الخارجية الهولندية – بحسب يمن تيلي نيوز– تلقى مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية منذ عام 2022 تمويلاً إجمالياً يقدر بأكثر من 10 مليارات و490 مليون ريال يمني (ما يعادل حوالي 5.6 مليون يورو).
وتكشف الأرقام تفاصيل أكثر دقة:
· بلغت ذروة التمويل في عام 2022، بإجمالي التزامات تجاوز 3.77 مليون يورو.
· شهدت الأعوام اللاحقة انخفاضاً تدريجياً في حجم التمويل، من المتوقع أن يصل إلى نحو 205 آلاف يورو فقط في عام 2026.
· بلغ إجمالي ما تم إنفاقه فعلياً حتى عام 2025 نحو 5.08 مليون يورو.
هذا التمويل يأتي في إطار اتفاقية وقعها المركز مع الوزارة الهولندية في 11 يونيو 2022 بعنوان "دعم السلام المحلي الشامل والمستدام في اليمن".
الأهداف المعلنة: طموحات واسعة وعناوين كبرى
بحسب التصريحات الرسمية لرئيس المركز، ماجد المذحجي، عقب توقيع الاتفاقية، فإن المشروع يهدف إلى "تعزيز الدور المحلي في عملية السلام من خلال اعتماد نهج تصاعدي وشمولي ومراعي للبعد الجندري".
كما أوضح المذحجي أن المشروع يهدف إلى "توفير منابر لليمنيين لبلورة السياسات، ودعم القدرات المحلية، والمساهمة في التأثير على صنع القرار على المستويات المحلية والوطنية والدولية"، إلى جانب "الإسهام في العملية التي ترعاها الأمم المتحدة".
ويشمل المشروع، المقرر استمراره حتى يونيو 2026، دعماً لمبادرات المسار الثاني المرتبطة بالشباب والمجتمع المدني، ورفد الجهود الدبلوماسية الرسمية، إضافة إلى دعم المبادرات والمنظمات الناشئة وإعداد جيل جديد من المحللين اليمنيين.
منتدى لاهاي: محطة جدل بتكاليف "مهولة"
يمثل "منتدى اليمن الدولي" بنسخته الثانية الذي نظمه مركز صنعاء للدراسات واستضافته مدينة لاهاي بين 12 و15 يونيو 2023، أحد أبرز تجليات هذا التمويل، وأكثرها إثارة للجدل.
تشير البيانات إلى أن حجم الإنفاق على الفعالية بلغ ما يعادل نحو 3 مليارات و700 مليون ريال يمني. وتكمن التفاصيل الأكثر إثارة في التالي:
· خصص مبلغ 1 مليار و807 ملايين ريال لمشاركة الحضور اليمنيين وحدهم، والذين بلغ عددهم نحو 150 مشاركاً.
· يمثل هذا الرقم متوسطاً تقديرياً يصل إلى حوالي 12 مليون ريال لكل مشارك يمني خلال برنامج استمر ثلاثة أيام فقط.
وفيما يتعلق بالكوادر العاملة ضمن المشروع، تظهر البيانات تخصيص مبلغ 459 ألف دولار لرواتب فريق مكون من 20 موظفاً خلال فترة تمتد 13 شهراً، أي ما يعادل نحو 741 مليوناً و275 ألف ريال.
ووفق الأرقام ذاتها:
بلغ إجمالي ما حصل عليه مدير المنتدى نحو 153 مليون ريال، بمتوسط شهري يقارب 11.7 مليون ريال، بينما وصل إجمالي ما تقاضاه مدير المشروع إلى حوالي 77 مليون ريال، بمتوسط شهري يناهز 6 ملايين ريال.
كما شمل المشروع ميزانية تتجاوز 1.1 مليون دولار مخصّصة لنفقات السفر والتأشيرات والإقامة والنقل للمشاركين، إضافة إلى مخصصات واسعة للأنشطة التحضيرية والمشاورات الدولية ذات الصلة بالفعالية.
عناوين فضفاضة في مواجهة واقع مرير
في مقابل هذه الأرقام والتكاليف الكبيرة، تذهب بعض التقييمات والملاحظات إلى أن الأهداف المعلنة لا ترتبط بشكل مباشر باحتياجات المجتمع اليمني.
ويشير نقاد هذه المشاريع إلى أنها "تُطرح في إطار عناوين عامة 'فضفاضة' لمشاريع ذات أثر محدود على الواقع". كما يلاحظ آخرون أن "الدعم الهولندي المهول موجه نحو مراكز ومشاريع تعمل غالباً من خارج البلاد، الأمر الذي يحد من قدرتها على تحقيق تواصل فعال مع المجتمعات المحلية أو الاستجابة لأولوياتها الفعلية".
هذه الملاحظات تضع علامات استفهام حول مدى ارتباط هذه البرامج بالسياق المحلي واحتياجات السكان الذين يعانون من تبعات الحرب والأزمة الإنسانية.
السياق الأوسع: إشكالية المساعدات الدولية
لا تمثل إشكالية تمويل مركز صنعاء حالة معزولة، بل تندرج ضمن إشكالية أوسع تشمل فاعلية المساعدات الدولية الموجهة لليمن بشكل عام. فعلى الرغم من ضخامة الأموال التي تم ضخها عبر قنوات المساعدات الإنسانية وبناء السلام خلال سنوات الحرب، لا تزال المؤشرات على الأرض تشير إلى فجوة واضحة بين حجم هذا الدعم والتحسن الملموس في الواقع المعيشي للسكان أو في دفع عجلة السلام.
هذا التناقض يضع علامات استفهام كبرى حول كفاءة مسارات الإنفاق وفعالية الآليات المعتمدة في توجيه هذه المساعدات، ومدى تلبيتها للاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية.
خلاصة
تظهر البيانات المستعرضة وجود فجوة واضحة بين حجم التمويل المخصص لمركز صنعاء والنتائج الملموسة على الأرض. فرغم تعدد البرامج والمبادرات التي ينفذها المركز، لا تزال هناك تساؤلات حول درجة ارتباطها بالسياق المحلي واحتياجات السكان.
أموال تبحث عن أثر
وهكذا تظل الإجابة على سؤال: أين ذهبت 5.6 مليون يورو؟ محصورة في فواتير الفنادق والرواتب وتذاكر السفر، بعيداً عن واقع اليمنيين الذين من أجلهم رُفعت تلك الأموال أصلاً.