الوطن العدنية /كتب_علي البكالي
إن حقائق تاريخ الإمامة في اليمن تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنها تعاملت مع اليمنيين كأغيار، ومع بلادهم كفيد ومغنم، وقد ظلت تستقدم المهاجرين السلاليين العلويين وشيعتهم من الطبريين والفرس بشكل متواصل، وكانت تقوم بإقطاعهم مناطق اليمن حكاماً وولاة عليها، لا ليقيموا فيها العدل والإنصاف، فهذا مما لا يدخل في قاموس وأعراف السلالة العنصرية، وليكن ليكونوا من تلك الإقطاعيات ملكياتهم الخاصة، فيتحولوا من هجرات إلى ملاك أثرياء، فيما يزاد أهل البلاد شقاءً وفقراً.
وفي الوقت الذي تشعر الإمامة أن ثمة جيلا جديدا من اليمنيين بدأ التحول إلى الأعمال والتجارة وتكوين طبقة جديدة من البرجوازية ستؤثر في القرار السياسي والاقتصادي في اليمن، تقوم بإثارة فتنة طائفية أو سياسية، وتشن حروباً ماحقة، تهلك ذلك الجيل، وتنهي أثره، وتنهب الثروات والأموال التي تكونت بيديه، ومن جهده وأعماله، ومن لم تطله يد الإمامة منهم قتلاً ونهباً، يضطر للهروب خارج اليمن، فيتأهل في أي بلد آخر غير اليمن، وينسى بلاده.
وبهذه الطريقة الخبيثة، والسياسة الماكرة، ظلت الأسر العلوية الإمامية مسيطرة على السلطة وعلى المال والثروة في اليمن، فشكلوا من هذه الأسر العلوية طبقة الأرستوقراطيين وطبقة البرجوازيين في طول اليمن وعرضها، في حين منح اليمنيون لقب (رعوي) تعبيراً عن موقعهم في الطبقية الاجتماعية الدنيا ( طبقة العمال البروليتاريا).
لقد ذكر طرفا من ذلك المؤرخ يحي بن الحسين في كتابه "بهجة الزمن في حوادث اليمن" وهو يتكلم عن تفرق وتمزق الدولة في عصر الإمام المؤيد بن إسماعيل المتوكل قال: ".. أما بقية المناطق فقد توزعت بين مراكز القوى المتعددة، من أبناء القاسم التي كان أقواها صاحب المنصورة، محمد بن أحمد بن الحسن، وكانت مناطق ولايته قد شملت الحجرية وجنوب تهامة حتى بيت الفقيه؛ وكذلك علي بن المتوكل، كانت له المناطق الجنوبية الواقعة بين ذمار وتعز، وهو ما عرف باليمن الأسفل.
والحسين بن الحسن كانت ولايته ممتدة من رداع وما إليها من المناطق الشرقية حتى حضرموت، وعلي بن أحمد كانت له ولاية صعدة وما إليها من المناطق الشمالية، والأمير الناصر بن عبد الرب في كوكبان وما إليها، وصار كل والٍ أشبه بالإمام في منطقته، يتصرف بكامل حريته دون رقيب أو حسيب، ولا هم له إلا السلب والنهب والثراء والفيد".
هذا بالإضافة إلى أن إسحاق بن المهدي استقر في ذي اشرق، واستولى على عائدات بعض المناطق المجاورة حتى ينفق على جنده.
وأخوه إبراهيم بن المهدي كذلك استقر في يريم وتصرف فيها وفي أموالها، ومحمد بن المهدي أحمد بن الحسن أرسل "أبا ريحان" على رأس مجموعة من الجند لاستلام ربع المخا وبعض تعز، حسب موافقة الإمام المؤيد في شروطه.
وكانت بلاد العدين، من أعمال لواء إب الخضراء وبلاد ريمة ووصاب مطمع الأئمة تباعا، خلفا عن سلف، لخصوبة أرضها، وعميم خيراتها وطيبة أهلها، فقد ضمها إليه محمد بن الحسن ـ الرجل الثاني أيام المتوكل على الله إسماعيل، والذي عارضه بالإمامة ثم تنازل له ـ فقد ضم بلاد العدين إلى جملة اقطاعياته هو وأبناؤه، ومنها تعز والحجرية.
وقد حاول الإمام المتوكل نفسه أن يضمها لنفسه وتحت إشرافه مباشرة، إلا أن محمد بن الحسن رفض ذلك رفضا قاطعا، قائلا للإمام: "البلاد بلادي، وفيها عمَّالي، وإليها حاجاتي" .
وبعد وفاته اسماعيل جاء ابنه يحي يفاوض الإمام المتوكل أن يبقي لهم البلاد التي تركها لهم أبوهم، أما سائر البلاد الأخرى "فلنا النصف وإليكم النصف"!
كما استقر فيها ـ أيضا ـ نجله عبدالله بن يحي بن محمد بن الحسن، آخذا النصف من عائداتها، مدعيا أن الإمام المؤيد قد جعل له النصف من عائداتها.
وحين أرسل النصف الآخر استولى عليه إبراهيم بن المهدي في يريم وقدره ثلاثة آلاف قرش، كما أقطعها الإمام المنصور علي منحة لعمه أحمد بن المنصور الحسين.
وقد خلت يد المجرم الإمام المؤيد عن جميع اليمن الأسفل بالمرة، فقد تقاسمها عمال علوين لا يعطونه شيئاً من فيدها وأموالها، ولم يبق له فيه إلا مجرد الخطبة، وصار في أشد الحاجة إلى الأموال، وخلت خزائنه من المال، ولم يبق له من البلاد إلا ما كان له أيام والده، بل إنه قد خرج من يده بعض مناطق ولايته مثل بلاد حراز أعطاها لأحمد بن محمد بن الحسين، وبلاد ثلا أعطاها لأخيه القاسم بن المتوكل".
وكانت كل هذه الأعمال برضى الإمام، مثلما كانت كل أعمال النهب والسلب والفيد الأخرى برضا كل إمام، ليأمن شرور أصحابه وذويه وأبناء أعمامه وأتباعه.
ولأن الاقتصاد طوال حكم الأئمة الغزاة ظل قائما على ما يعرف بالاقتصاد الإعاشي المعتمد على الزراعة والرعي فقط، وكانت أرض الإمامة غير خصبة، كخصوبة مناطق اليمن الأسفل، إلى جانب أن الثقافة السائدة لدى هؤلاء الناس أن احتراف الزراعة أو الرعي أو التجارة مما يعيب، في الوقت الذي يعلون من شأن أعمال النهب والسلب والتقطع وابتزاز الآخرين، فقد كانت ثقافة الإقطاع وتوزيع البلاد فيدا على الأقارب تشكل حلا لصراعاتهم الداخلية، كما هي أيضا طريقة لكسب قبائل الفيد والقتال التي تصف مع الإماميين العلوين ترا لهذا العرض.
لقد كان الأئمة العلويون السلاليون يتخلصون من مطالب قبائل ما حول صنعاء التي لا تنتهي، فيقومون بإرسالهم جُباة وعساكر ولجانا ومحصلين ومخرصين إلى اليمن الأسفل، ليسترزقوا منها، وكان الأئمة يغضون الطرف عن كل أعمال النهب والسلب والاستحواذ والفيد والسرقة التي يمارسها هؤلاء القبائل هناك، ولا يمنعونهم من هذه الأعمال الوحشية، خشية ألا يرتدوا إليهم، ولك أن تتخيل أن وصل الأمر ببعض النافذين من هؤلاء الناهبين إلى قتل النساء على الخرص، وسمل الأعين.
لقد حدث في لواء إب في عهد المتوكل اسماعيل، وتحديداً في الشعر من قبل إحدى هذه الحملات المسعورة أن قتلت أكثر من مائة امرأة بسبب نهب الأخراص والقلائد من أعناقهن!
كما أن مناطق اليمن الأسفل هي التي ظلت قرونا طويلة ترفد خزانة الدولة بالمال، وتعول وتنفق على ما عرف بقبائل المشرق العاملة مع الإمامة جيشاً، حيث يستصعبون مشاق العمل والفلاحة، ويفضلون أعمال التقطع والنهب والسلب والفيد والحرب على كل الحرف والمهن والتجارة التي يرون العمل في بعضها خادشا للمروءة، ومنقصة من المكانة الاجتماعية!
وقد أصدر الإمام المنصور في القرن الحادي عشر الهجري مرسوما بداية توليه الإمامة بأن تُعتمد مخصصات مالية لقبائل "يام والعصيمات" من خراج بعض مدن وموانئ مخلاف تهامة، كي تكف هذه القبائل عن التمردات والخروج على الإمامة في مناطقها!
وكانت هذه القبائل لو تأخر هذا "الجعل" السنوي مجرد تأخير فقط، سرعان ما تعلن النفير وتخرج بقضها وقضيضها على هذه المدن التي جعل لها من خراجها.
وحتى تشرعن الإمامة لمثل هذه السرقات والفيد كانت تسميها باسم التعيون، وهو في الحقيقة خراج وجزية وجعل سنوي، لم يكن حتى يتم تسليمه من يد "المانحين بالإكراه" مباشرة إلى يد "الممنوحين بالقوة" إمعانا في الإهانة، وازدراء لكرامة الناس.
على سبيل المثل كان أشراف المخلاف السليماني ـ وهو جزء من اليمن التهامي يومها ـ يسلمون هذا "العطاء" السنوي من أيديهم مباشرة إلى قبائل يام والعصيمات.
وكان مشايخ باجل وتهامة يسلمون لما بسمى - بالأشراف الهاشميين- في تلك البلاد الجعل أو الخراج السنوي، كمندوبين للإمام وقبائله، وبدورهم يسلمونها لقبائل يام والعصيمات سنويا ستمئة ريال فرانصي.
لقد كان مقياس تولية الولاة لدى الأئمة العلويين كابراً عن كابر، هو مدى قدرة هذا الوالي على جمع أكبر قدر من أموال اليمنيين، وهو ذات المقياس عكسه الولاة المجرمون على عمالهم، فالترقي في الوظائف العامة لدى ولاة الأئمة على المخاليف والألوية، هو أن من يستطع تقديم المزيد من المال إلى الوالي وإلى الإمام.
وبحسب الزيادة في جمع ونهب المال من (الرعية) تكون ترقيته متسارعة، وفي الوظائف التي تُدر على قادتها مالا أكثر، رغم الضرر الكبير الذي كان يلحق الناس والرعايا من هذه السياسة والجباية الجائرة.
وممن نال الحظوة لهذا السبب حسن بن عثمان العلفي الذي كان مجرد كاتب أيام الإمام المهدي عباس، ثم ولاه بعض الولايات في اليمن الأسفل، وكان على قدر عالٍ من الذكاء ومعرفة نفسيات الأئمة، فاستطاع أن يحصل على عمالة كسمة والجبين من أعمال ريمة معا، وقد كانتا مفصولتين عن بعضهما قبل ذلك، ورفد خزانة الدولة بأموال كثيرة، فشكره الوزير الأعظم مرارا عند الإمام، وتم بعد ذلك تعيينه مقاليد الوزارة العظمى أيام الإمام المنصور عام 1197هـ.
والثابت تاريخيا في كل مرويات وسير الأئمة من يحي الرسي حتى أحمد حميد الدين، هو أن الأئمة كانوا يعملون على تأليف قبائل صنعاء وعمران وصعدة وحجة وما حولها من أموال أبناء اليمن الأسفل التي يكونون قد جمعوها تحت أكثر من مسمى، لمواجهة هذه القبائل المحيطة بهم. وصار لسان حالهم كما أشار الشاعر الرصافي يوما ما، منتقدا ما يسمى دار الخلافة:
دارٌ تُباع بها المناصب سُمّيِت
دار الخلافة عند من لم يعقل
وكانت قبائل الفيد حول صنعاء تشكل جيش الإمامة الدائم، منتظرة لأمر الإمام يبيح لها فيد القبائل في مناطق اليمن الأسف والشرق سنوياً لتأخذ جعلها، ولم ينشأ جيش متفرغ ونظامي، وأحياناً كان الأئمة يستخدمون العبيد المجلوبين من افريقيا جنودا لقتل اليمنيين كما حدث أيام الإمام المهدي، صاحب المواهب، يثقون فيهم بدلا عن اليمنيين كما يفعل الحوثيون اليوم.
ولطالما هدد بهم المهدي صاحب المواهب ابن عمه الحسن بن القاسم بن المؤيد سنة 1124هـ حين أراد الخروج عليه، وقد كان ـ كما ذكر العلامة المقبلي ـ يجبي العائدات لنفسه ولمواليه من المنطقة، ولم يعد يصرف لأي من المستحقين محليا؛ بل لقد كان يفرض على من يشتكي عنده من الرعية نقودا مقابل أن يقبل دعوته وشكواه، ويحيلها إلى القاضي ليحكم فيها.
ويعتبر هذا المقابل المالي المأخوذ عنوة من المواطن المسكين المظلوم الذي يشكو مظلمته يعتبره الإمام أجرة القاضي وحق الإمام.
وقد عمل المهدي صاحب المواهب على نفي أبنا المتوكل إسماعيل مع عائلتيهما إلى مكة، وهَرَب مولاه إسحاق بن محمد العبدي إلى الهند، وبقي فيها حتى مات هناك، لأنه قرأ إحدى الرسائل الموجهة إليه جهرا ولم يذكر لقب الإمام!
وقد ذكر الكثير من المؤرخين أن المهدي كان ذا مزاج متقلب، فقد غير لقبه أكثر من مرة، واتخذ أكثر من عاصمة أثناء حكمه، يبني عاصمة ويخرب أخرى، وغير العملة في عهده مرات عديدة، بل لقد غيرها في شهر واحد ثلاث مرات، وهكذا ظلوا يعربدون بحياة اليمنيين كما يفعل الحوثيون اليوم في التلاعب بالعملة ومنع صرفها في صنعاء ومناطق سيطرتهم، يلعبون بها كمراهقين وأطفال غير آبهين بحياة الناس.
وإمعاناً في تعذيب ونهب اليمنيين استعمل المهدي عباس افرادا من الحبشة، جنودا وقادة للجند، وعمالا ومحافظين في فترة لاحقة، ضمانا لولائهم المطلق وطاعتهم الحرفية له، وتثبتا من عدم مقاومتهم أو اعتراضهم في حال عزل أحدهم عن منصبه، خلافا لبعض الأقارب الذين يستعصي أمرهم على بعض الأئمة في الغالب، كالأمير سعد الذي تم تعيينه عاملا للواء الحديدة ثم ريمة، وقد كان عبدا لدى العامل يحي العلفي، ثم عاملا لريمة بعد ذلك، ورغم اشتهاره بالشجاعة إلا أنه اشتهر أيضا بالخمرة السرقة والفيد والنهب.
وليس المهدي من استجلب واستأمر الأحباش واستعملهم فقط؛ بل أئمة آخرون منهم الإمام المنصور علي أيضا من بعده، فقد كان الأمير "مرجان الصنعاني" أميرا في جيش المنصور، وقد عزله عن منصبه بعد أن قام بضربه في بلاطه، صبيحة يوم عيد الفطر من العام 1196هـ، ثم أمر بحبسه ومصادرة أمواله، حين علم أنه أخفى عليه مقدارا من الأموال التي كلفه بمصادرتها على خازن الحبوب في جبلة.
وكان الأمير عنبر عاملا للإمام المنصور على ولاية حبيش، ثم العدين، ومنهما جمع أموالا طائلة، فطمع الإمام بنصفها، فرفض الأمير عنبر أن يعطيه منها شيء، الأمر الذي أغضب الإمام عليه كثيرا، فقام بتعزيره أولا؛ حيث ربطه إلى نافذة دار الفتوح، وهو عريان، ثم أمر بضربه وحبسه مدة شهر في مكان تُجمع فيه قاذورات وفضلات حمام القصر.
وهكذا ظل الأئمة الهادويون الرسيون الغزاة وعمالهم يستحدمون المرتزقة من الطبريين أو الأحباش كما يفعل الحوثيون اليوم، ولا هم لهم إلا السرقة والفيد ونهم أموال اليمنيين وأملاكهم بحثاً عن الإثراء غير المشروع لهم ولأسرهم العلوية على حساب جوع اليمنيين وفقرهم.
وللحديث بقية