الوطن العدنية/كتب_عوض القيسي
الحلبة طعام لذيذ، ومسوغ لأنواع الخبز كلها. يرخص ثمنها، ويسهل تحضيرها، وهذه مَزيَّة عظيمة، ولا سيما في زمن الحرب والشدة التي نعيشها.
ولتكون الحلبة لذيذة، يستمتع بها من يأتدمها، يجب أن تحضر بعناية. ولعلكم -معاشر الطاعمين- لاحظتم تنوع مذاق الحلبة من بيت إلى مطعم إلى آخر، ما بين حلبة صفراء بسيطة النكهة بادية المرارة قليلة الرغوة ثقيلة القوام، أو متوسطة المذاق متوسطة القوام الرغوي، وأخرى برغوة كثيرة بيضاء تسر العين، ونكهة ثرية فوحها يداعب الأنف؛ فتستحلب الريق وتدغدغ جدار المعدة. والعلة في ذلك هو تفنن من يصنعها وخبرته.
ويمكن أن تكون الحلبة عنوانا على حذق نسوة البيوت، فالحلبة الناصعة الفواحة اللذيذة دليل على أن من حضرها امرأة صناع اليدين، وإن كانت بكرا فسعيد من يظفر بها زوجة، فلا ريب في أن تلك العناية فلسفة عملية وأسلوب عيش راقٍ يرشدانها في سائر شؤون الحياة.
أما المخبازة التي يحسن عمالها تحضير الحلبة فلا غرو أن سائر طعامها لذيذ حسن التحضير، لأن وراءها مالك يحسن اختيار عماله وخبازيه، ويحرص على جودة المذاق؛ التي يعلم أنها الإعلان الأقل كلفة والأكثر جذبا للزبائن.
ولصنع مطيبة حلبة لذيذة، اختر نوعا جيدا من الحلبة مثل حلبة الرجوي، ويستحب ما كانت حديثة الطحن، فكلما بعد عهد الحلبة بالطحن قل قوامها الرغوي وازداد ترسبها في القاع ، فتكون ثقيلة وأقل لذاذة.
عند التحضير، خذ مقدار ما تحتاج من الحلبة في مطيبة، ثم أرق عليها الماء حتى يغمرها، واخلطها برفق دون أن تخفقها حتى لا ترغي، فالمراد في هذه الخطوة إزالة المرارة من الحلبة. ضع الحلبة لساعة أو ساعتين، ثم ارم ماءها، وانقعها أخرى نقعة سريعة. بعد أن تتخلص من ماء النقع، أضف قدرا قليلا من الماء، وابدأ بخفق الحلبة بالملعقة حتى ترغي ويزداد حجمها، وبعد كل نوبة خفق، أضف ماء، إذا وجدت أن الحلبة ما تزال ثقيلة، وكرر هذا العمل حتى تحصل على قوام معتدل كثير الرغوة. يمكن استعمال الخلاط الكهربائي في الخفق، وهو سريع الأثر.
اعصر ليمة أو اثنتين في الحلبة؛ لتكسبها اللون الأبيض الخلاب، وحبذا عصرها عند الخفق، لتحصل على الأثر الأحسن. إن لم يكن الليم متوفرا، فأضف قدرا ضئيلا من ملح الليمون. لكن الليم يبقى أفضل، فالليم يضيف مع الحموضة نكهته القوية المستحبة التي تثري النكهة الكلية للحلبة.
إن لم يكن ليم أو ملح الليمون فخل، وأكثره تناغما خل التفاح، ولا بأس بالخل الصناعي الأبيض. من يحب تنويع المذاقات يمكنه أن يستعمل الحمر، فللحمر مذاقه المركب الفريد، ويمنح الحلبة لونا قطرانيا يحاكي لون القهوة التركية.
تخفي الحوامض ما يبقى من مرارة في الحلبة. حذار من الإكثار منها، فالحموضة القوية تفسد توازن المذاقات، إذ يزداد الإحساس بها حدة عند مضغ الخبز، فيصير أقل استساغة.
أضف قليلا من الملح (ملعقة شاي لكل ملعقتي طعام حلبة)، فبقليل من الملح يصير الطعام مليحا، وإن كثر صار مالحا. ومذاق الملح المعتدل يناغم المذاق الحامض مع مذاق المرارة فتندغم الطعوم كلها في طعم واحد. إن أحسنت خفق الحلبة مع قدر متوازن من الملح والحامض فستجد مذاقها لذيذا قبل أن تمزج بالسحاوق، بل يمكن تناولها مع الخبز مباشرة إن لم يتوفر السحاوق، وهذا ما يرشح الحلبة لتكون من أطعمة أوقات الشدة، فالطماط والثوم والبسباس كثيرا ما يرتفع ثمنها ويعز منالها في زمننا الذي تنقطع فيه الرواتب، أما الحلبة فتقول لك: خادمتك وبين يديك!
بعد خفق الحلبة وإضافة الملح والحامض، تصير الحلبة جاهزة لمزجها بالسحاوق، والسحاوق أنواع كثيرة، أفضلها مع الحلبة السحاوق البسيط، المصنوع من الطماط والبسباس وأوراق الكزبرة والثوم. الطماط الأحمر التام النضج يجعل الحلبة أفضل، فهو طعيم وسهل الهرس في الخلاط، ولا تبقى منه كتل صلبة، فيحسن امتزاجه. والبسباس يستحسن أن يكون متوسط الحرارة مع الحلبة، وإن زادت حرارته قلت استساغة الحلبة مع الخبز؛ لأن زمن مضغ الخبز في الفم يطول، فيزيد تفاعل البسباس مع الخلايا الحساسة للحرارة؛ فيعطي شعورا حادا مزعجا. أما الثوم فيكفي منه فصا، مع مقدارنا السالف الذكر. وليعطي فص الثوم نكهته الكاملة ومذاقه اللاذع، يستحسن هرسه بمهراس الثوم قبل وضعه في الخلاط، لأن شفرات الخلاط تكسر فص الثوم، لكنها لا تقدر على هرسه.
لو أتبعت تلك الخطوات فستصنع حلبة شهية المرأى ولذيذة، لكنك قد لا تجد النكهة الفاغمة التي ألفتها في بعض المخبازات، فما سر ذلك الشذى الفاغم؟
السر في الخميرة ! ليست خميرة الخبز، ولكن الحلبة المتبقية من اليوم الأول، التي تختمر، فتطلق الروائح الفاغمة. إن أردت أن تصل حلبتك مستوى الإتقان فأبقِ من اليوم الأول قليلا من الحلبة، لتكون خميرة، تضيفها للدفعة الجديدة بعد تمام خفقها، ولا تنس تركها نصف ساعة؛ لتحدث أثرها المطلوب في الحلبة الجديدة، التي ستصير أزكى رائحة وأطيب مذاقا.
عوض القيسي
في الصورتين أعلاه الحلبة البيضاء بعد خفقها ثم بعد مزجها بالسحاوق.