الوطن العدنية - كتب/عمار بن ناشر العريقي
روى الإمام البخاري ماملخصه: (ان عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة مهاجرا ، و كأصحابه المهاجرين فقد استولى كفار قريش على بيته وأمواله في مكة ، ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع عرضٌ عليه سعد قائلا: أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلّقهاوتتزوجها. فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق. فاشترى وباع وربح وبعد أيام من دخوله السوق تزوَّج وأَمهرَ نواة من ذهب، وأولَم بشاة، وقال: لقد رأيتُني بعد ذلك ولو رفعت حجرًا لظننت أني سأصيب تحته ذهبًا أو فضةً..)،ولما سئل عن سر نجاحه قال : مارددت ربحا قط !.
---------------------
#- لاشك أن ماحققه عبدالرحمن ابن عوف رضي الله عنه من نجاح اقتصادي كان نتيجة لتوكله على الله وحسن الظن والثقةوالاستعانة به سبحانه، ثم "بأخذه بالأسباب" و الاعتبار بقانون (السنن الكونية الإلهية) في(ربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات)،
ولذلك فلم يعبأ بما جرى عليه من خسارة وظلم ولم يخلد إلى اليأس أوالتذمر ، بل شرع في استئناف التجارة والخبرة في أرض غريبة (المدينة)، وصار بعد تعففه من أكثر اهل المدينة مالا ومكانة وعطاء وصدقة.
#- المال- كما هو معلوم- احد المصالح الضرورية والكلية، وهو عصب وقوام الحياة كما قال تعالى(أموالكم التي جعل الله لكم قياما) ، ولهذا قيل: (من يملك قوتك يملك قرارك). ولحساسية المال وخطورته فلاعجب ان يكون التعلق الزائد به حد الانانية والجشع والطمع هو منشأ اكثر الفتن و الصراعات. ولذلك فإن الله لم يترك قسمة (المواريث) لنبي مرسل ولالملك مقرب حتى قسمها تعالى بنفسه وكانت (آية المداينة) أطول آي القرآن لتعلقها بالحقوق المالية.
#- إن من الشنيع المعيب ما نسمعه من بعض الوعاظ من الدعوة إلى تزهيد الناس من جمع المال و البعد عن الدنيا بحجة التفرغ للعلم والعبادة والإقبال على الله و الدار الآخرة، ومنه مايردده البعض خطأ أن(الفقير الصابر خير من الغني الشاكر) !!، ولو عمم هذا المفهوم لكان على الإسلام والشعوب وبالا ونكبة ولقدم للأعداء أعظم خدمة. وحسبه منافاته للشرع والعقل والواقع.
فالمال - كما هو معلوم - قد يكون نعمة وقد يكون فتنة بحسب مصادره ومقاصده حيث ثبت في الحديث ان الإنسان يسأل يوم القيامة عن أربع: ومنها (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)؟.
وحسبنا أن الأنبياء عليهم السلام لم يستنكفوا عن أعمال الزراعة او رعي الأغنام كما ورد في سورة القصص عن موسى عليه السلام في تأجير نفسه للرجل الصالح لمدة عشر سنين .وماورد في البخاري: (مامن نبي إلا ورعى الغنم)، وكان نوح نجارا و داود حدادا وإدريس حائكا عليهم السلام .كما ثبت استعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر والكفر (قرن بينهما)، و ثبت ايضا قوله : (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ، وكان ستة من الصحابة العشرة المبشرين من أصحاب الملايين. وقد أسهم هذا الثراء في بذل الزكوات والصدقات في نشر الخير والجهاد و العلم والتخفيف من حدة البؤس و العناء ومساعدة الفقراء والاستغناء عما في يد الكبراء ،ومن اللطيف ماورد عن الإمام سفيان الثوري المشهور بعلمه وزهده انه استفتاه بعضهم وكان يعد فلوسه فعاب عليه ذلك ، فرد عليه سفيان بقوله: (أسكت فوالله لولاها لتمندل بنا الملوك) .وأجاب في موقف آخر بقوله: (دعني فإن قلبي عند درهمي).
و اشتغل الإمامان الجليلان ابن المبارك والليث بن سعد بالتجارة ولقب بعض علماء السلف بالبزاز والزيات لاشتغالهم بتجارة البز والزيت، وكان ابن سيرين يعمل لامرأة من مكة في تجارة الزيت، ولم ينقص عملهم في مصالح دنياهم من كمال علمهم ودينهم كما في دعاء المؤمنين: (ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) ،وفي البخاري ( ماأكل أحد طعاما خيرا من كسب يده وإن نبي الله داود كان ياكل من كسب يده) و في الصحيحين: (اليد العليا خير من اليد السفلى)
فالسعي إلى طلب وكسب المعاش لتحصيل المال والرزق الحلال كما يسهم في صحة وسلامة دين المسلم وخلقه ودنياه وآخرته وفي حفظ كرامته وتحصيل الحياة الكريمة له ولأسرته، وقد صح في الحديث (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول)، فهو يسهم كذلك في قوة وعزة الإسلام والمسلمين. حيث لايخفى ان عوامل القوة كالجيش والامن و الصحة والتعليم والإعلام لاتستغني بحال عن قوة الاقتصاد والمال. ولذلك فقد ورد تقديم الجهاد بالمال على النفس في كل آي القرآن إلا في موضع واحد في آية البيعة من سورة التوبة/111 ؛ ذلك لأنه لايتم الجهاد بالنفس إلا بالجهاد بالمال فبه يتوفر العدد والعتاد وسائر أنواع المقاومة والمدافعة العلمية والعملية.
#- واليوم حيث تفرض الازمات والحروب على الشعوب اوضاعا إقتصادية صعبة ممنهجة أحيانا حيث تشح الإمكانات و الموارد الماليةوتنتشر مظاهر الفقر والغلاء والبطالة ويختل النظام و الأمن وأداء المؤسسات والخدمات الضرورية وينسحب اثر ذلك في حق المؤسسات الخيرية الإنسانية والإغاثية والاعمال الدعوية من باب اولى ؛ حيث ان (دوام الحال من المحال) ،مما يستلزم على المخلصين مراجعة برامجهم وأولوياتهم و تفعيل إمكاناتهم وتنويع مواردهم في حدود المتاح والممكن بما يضمن عدم تعطل المشاريع التي تسهم في تخفيف وطأة الازمات على الناس والدعوة مما يحتم علينا في هذه الظروف الصعبة أن نلجأ إلى ثقافة وقانون (دلوني على السوق) ونتعلم شيئا من فنون وأعمال التجارة ولو في حدود الممكن ، وقد صح عن عمر رضي الله عنه مايبين معيارا مهما في الحكم على الناس بقوله: (إني لأرى الرجل فيعجبني، فأسأل عن عمله، فإذا قيل: إنه بلا عمل، سقط من عيني).
#- «دلوني على السوق» يجب أن يمثل منهج حياة وقانونا يجب تدريسه وترسيخه في عقول وثقافة وسلوك الأبناء ويؤمنوا به ويعملوا بمقتضاه. وينبغي أن يدركوا أن الأعمال والحرف والمهن كلها مقبولة طيبة ما دامت في حدود الدين والقيم والأخلاق، وقد ورد عن عمر قوله: (مكسبة فيها بعض الدناءة خير من أن تسأل الناس).
#- وإن الواجب على الانظمة والمؤسسات ورجال المال والاعمال التزام واجب التكافل الاجتماعي والتحلي بحس المسئولية والوطنية والرحمة و القيام بفتح دورات التدريب والتأهيل وتنمية المواهب و الخبرات وايتيعاب الطاقات، كما و الواجب على الشباب الشعور بالمسئولية تجاه انفسهم ومجتمعهم وأوطانهم ايضا وعدم الاستسلام للظروف والتحديات والمعوقات ومحاربة البطالة والكسل والفراغ ويدرسوا قدراتهم ومواهبهم وميولهم جيدا و يتحلوا بالتوكل على الله و لا ينتظروا الوظائف المكتبية او الرسمية والتي قد لاتتوفر اصلا او قد تقتل روح الطموح لديهم او لاتتناسب مع ميولهم وقدراتهم، وليحذروا الاعتماد على مقولة(أن الوظيفة أمان)، فالبطالة المقنعة التي يعيشها الكثير من الشباب ليست نتيحة فساد الانظمة دائما بل ربما نتيحة فساد وجشع المجتمع وعدم تحليه بالرحمة و روح التعاون والأخوة التي رأيناها في سعد بن الربيع، او التعفف و الجد والكد والهمة والمثابرة والمصابرة التي لمسناها في عبدالرحمن بن عوف،والمهم أن نبدأ من الآن متوكلين على الرحمن، وصدق الله تعالى إذ يقول: (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا آن كنتم مؤمنين).
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ودنيانا التي فيها معاشنا وآخرتنا التي إليها معادنا و أصلح شأننا كله يارب العالمين.