مقالات وآراء

السبت - 07 ديسمبر 2024 - الساعة 09:38 م بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/كتب/خالد بن سعد الشنفري

السّاعة تشير إلى السّادسة صباحا. أسرعت أم سالم لإيقاظ ابنها الأصغر باسل؛ ليستحمّ استعدادا للذّهاب إلى مدرسته. تركته يعتمد على نفسه كما عوّدته، وانشغلت بتجهيز الإفطار. استغلّ باسل هذه الدّقائق المعدودة، وتسلّل خلسة إلى غرفة المجلس، أفرغ حقيبته المدرسيّة من الكتب والدّفاتر وخبّأهم في مكتبة المجلس بدهاء؛ كي لا يلحظهم أحد. فعل فعلته، وأكمل تراتيبه اليوميّة كأنّ شيئا لم يكن، ولم ينمّ عنه أيّ توتّر أو ارتباك يوحي بأنّه أقدم على فعل أمر ما. كان طبيعيا جدا؛ تناول إفطاره، شاكس والدته وأخذ منها خمس ريالات بتحايل لذيذ؛ تحدّاها وكانت تخسر في كلّ مرّة وسحبهم منها ريالا ريالا وهي تضحك بلذّة، مشّط شعره، تناول حقيبته، وخرج إلى مقدّمة بيتهم لانتظار الحافلة. ودّعته أم سالم براحة وابتسامة على غير العادة؛ وهي تردّد بداخلها: "كبر آخر العنقود! له معزّة خاصّة، سبحان الله! الله يحميه ويحفظه! يا رب أشوفه بأعلى المناصب!" أغلقت خلفه باب البيت الخارجي، ورجعت ترتّب بعض الأشياء، وكلّ فترة تنرسم على ثغرها ابتسامة كلّما تذكّرت المتحايل الصّغير باسل وكلامه العذب، وأحيانا تقهقه انتشاء. لم تتوقّف عن ذلك إلاّ عندما نامت. غفيت بعمق وراحة، ولم تستيقظ إلاّ وقت الظّهر؛ لتعدّ وجبة الغداء قبل أن يعود أبو سالم والأولاد إلى البيت، وكانت بين الفينة والأخرى تحادث نفسها: "لأوّل مرّة يكون معه مبلغا أكبر من حجمه ههه.. ترى ما سيفعل به؟ أيعقل أن يضيّعه؟ قد يشتري به شكلاطة وحلوى، أو قد يشتري به سندويتشات غير صحية. يا ليتني نبّهته أن يحسن التّصرّف به! قد يتقاسمه مع أصدقائه أو يساعد محتاجا! يا ليته يفعل ذلك، سأكون فخورة حقا، وأسعد كوني أسميته باسل! عموما هو الآن بالطّريق وما إن يصل، سأسأله عمّا فعله بالمبلغ، وأكتشف حسن تدبير آخر عنقودي!"
انتظرته نصف ساعة بأكملها بعد وقته المعتاد للوصول؛ فساعة ولم يصل بعد. بدأ القلق ينخر بالها كلّ دقيقة: "تأخّر باسل كثيرا!" ممّا جعل أمّه تشعر بالنّدم وتردّ على قلقها بقلق أكبر: "أنا السّبب! أنا من أعطيته الخمس ريالات! لم أنبّهه! إلى أين ذهب؟ ماذا سأقول لوالده؟" اتّصلت بالمديرة؛ لكنّها لم ترد. تمكّن منها إحساس مرعب. أسرعت إلى جروب المدرسة بالواتساب تبحث عن رقم مربّية صفّه؛ تصفّحت بعينيها المحادثة على السّريع؛ لتطمئنّ. وجدت أنّ الأمر عادي، ولا توجد رسالة تبعث بالقلق. هدّأت من روعها: "الحمدلله، لابدّ أنّه خير! الخبر السّيّء يصل بسرعة! الله يحفظك يا باسل! استودعتك الله!" اتّصلت بالمربّية متأمّلة بأن يكون التّأخير بسبب المدرسة كأن يكون عطلا بحافلة المدرسة. وكانت الصّدمة؛ إذ بمعلّمته هي من تبادر بالسّؤال عنه راجية له السّلامة قبل أن تفتح فمها ببنة شفة. قالت لها بحيرة، وهي تحاول لملمة الكلمات: "ك.. كيف؟" ردّت عليها: "قلتُ لكِ سلامته، لم يأتِ إلى المدرسة اليوم، عسى المانع خيرا؟!" صعقت بما سمعته، أغلقت فورا بعد أن ترجّتها بأن يتأكّدوا من الأمر، واتّصلت بزوجها هالعة؛ تارة تحمّله المسؤوليّة وتارة أخرى تردّد على مسمعه تفاصيل ما حصل منذ الصّباح. حاول التّهدئة من روعها، وطمأنها بأنّه سيستجلي الأمر من المدرسة، وسائق الباص.
انهارت أمّ سالم على الكنبة، لا تدري ما تفعله، وكلّما داهمتها المساوء الّتي ممكن أن تلحق بفلذة كبدها تتصاعد شهقات بكائها المرير، وتنظر إلى أعلى مستنجدة بالله. لا تدري كم ظلّت على تلك الحال إلى أن سمعت خشخشة مفتاح الباب الخارجي، هلعت نحو زوجها تحثّ خطواتها في تعثّر، بدا عليه الارتباك والحيرة رغم أنّه تصنّع التّماسك: "أم سالم.. أم سالم.. ها أنتِ! لا تخافي سنجده! البلد أمن وأمان الحمد لله، ولا سيول ولا أمطار! الأمور طيّبة إن شاء الله! أبلغتُ مركز شرطة السّعادة، وأعطيتهم بعض صور باسل المخزّنة بجوّالي، وقد أخذوا منّي المعلومات الأساسيّة وباشروا فعلا بإجراءت البحث!" تساءلت: "وسنظلّ هنا منتظرين فقط؟ يجب أن نفعل شيئا! سأخرج بنفسي للبحث عليه، لن أنتظر الشّرطة!" أجابها بثقل الحزن: "إلى أين يا حرمة؟ استهدي بالله! على رسلك! أخبرت إخوتي وإخوتك بالـأمر، الجميع عنده علم الآن، والكلّ في طريقهم إلى هنا! سنبدأ البحث في الحال! وقالوا كذلك أنّهم سيعلمون الأقارب والمعارف بخبر اختفائه! الكلّ سيتجنّد للمساعدة، لا تخافي!" تحمّست واستبشرت بالأمل والخير: "باشروا البحث من هنا! لا أعتقد أنّه سيبتعد كثيرا عن منطقة السّعادة وضواحيها!" ثمّ حادثت نفسها برعب: "أو قد يكون ابتعد فعلا، معه خمس ريالات! أنا السّبب!" أخذت تندب حظّها، ولم ينتشلها من ذلك الحال؛ إلاّ صوت رسائل جروبات الواتساب، انتشر الخبر الآن بمعظم جروبات محافظة ظفار المشاركة فيها، ووصلها الخبر أنّ الخبر قد انتشر بعمان كلّها، وانهالت صوره من كلّ صوب، وتنوّعت العبارات. طمأنها الوضع من جديد، وحدّثت نفسها تجدّد فيها الإطمئنان: "سيتمّ العثور عليه سريعا بإذن الله!" وبالفعل خلال سويعات قليلة، امتلأ بيتهم بالنّاس، ولم يهدأ الجرس؛ كلّ يعرض خدماته بطريقته. أصبحت عيون سكّان السّعادة وصلالة جمعاء تترقّب رؤية باسل بأيّ بقعة. لكن للأسف مرّ الوقت ثقيلا كريها، ولم يبشّر أحدهم العائلة المكلومة بظهوره.
ارتفع آذان العشاء يعلن عن ليل حالك، ويحشد النّاس للخشوع بين يدي الواحد الأحد يؤدّون آخر فريضة ليومهم ذاك، صرخت أمّ سالم: "الآذان! انتهى اليوم! أين ستبيت ليلك يا بني؟ بأيّ حال سأعيش؟ مرّ أكثر من نصف يوم.. السّاعة التّاسعة الآن.." قالت ما قالته وتهاوت على الكنبة خائرة القوى. التفّت النّسوة حولها يواسينها ويطبّبنها، ولم تتوانى دموعهنّ في مآزرتها أيضا. عمّت الفوضى حولها، ولم يوقف كلّ ذلك إلاّ صرخة أبو سالم: "اتّصال من الشّرطة!" ارتجفت الأمّ المسكينة بقوّة وفزع الجميع خوفا متمتمين بالدّعاء مردّدين: "يا ساتر! يا رب!" وسرعان ما شهق الكلّ في نفس اللّحظة، عندما ردّد الأب باستغراب: "مطار مسقط الدّولي؟! من؟ بالمطار؟ باسل؟ بمسقط؟ كيف؟" تعالت الأصوات مستفسرة: "وجدوه؟" طأطأ مؤيّدا، فتردّدت تكبيرات الرّجال، واحترّ التّصفيق، وعلت زغاريد النّسوة، وهمّ أخوه ليأتي بالذّبائح وينحرها أمام البيت؛ بينما ظلّ شاردا فيما قاله الظّابط. فجأة أمرهم بالتّوقّف: "كفّوا عن التبلبيل والتّطبيل! هذا إيش يساوي بمسقط؟ وكيف حتّى راح لهناك؟ يا حرمة ما خبّرتيني إنّك عطيتيه خمسة ريال بس؟"
"استوقفت إحدى الموظّفات بمطار مسقط الدّولي طفلا يحمل حقيبة مدرسيّة في ردهة المسافرين. وما شدّها من أمره أنّه كان منهمكا برصّ أشيائه داخل الحقيبة محاولا جاهدا إحكام غلقها. اقتربت منه تحاول مساعدته، وتفاجأت بأنّه يملؤها بكمّية من بسكويت نبيل وشيبس عمان وبعض أنواع الشّكلاطة. مازحته قائلة: "يبدو أنّك مسافر إلى أبعد نقطة على هذا الكوكب؟!" فأجابها في الحال بحماس: "لا هي قريبة جدا منّا؛ لكن أبي قال لي عندما سألته: لا يمكننا الذّهاب إليها إلاّ بالطّائرة!" استمرّت في ملاطفته: "أخشى أنّك تركتنا بدون شيبس ولا بسكوت! ألا يوجد هناك حلويّات؟" اغرورقت عيناه وأردف في حزن: "قالت لي أمّي أنّهم لا يفكّرون في الأكل بقدر ما يفكّرون في الحياة والبقاء! لم أفهم جيّدا ما قالته؛ لكن رأيتهم يبكون ولا يلعبون، أودّ أن أقدّم لهم بعض الهدايا ممّا أحب! أحبّ أن يشعروا بالسّعادة ويضحكوا، أحبّ أن ألعب معهم!" استغربت الموظّفة ممّا يقوله الولد: "إلى أين أنت مسافر؟" أجاب ببسالة: "إلى غزّة!" اندهشت ممّا يقوله وتهدّج صوتها: "أنت فلسطيني مقيم بعمان؟ ولمَ قد تعودون والقصف بكلّ مكان الآن؟" ضحك بفخر: "لا أنا عماني! قال لي أبي بأنّهم إخوتي، ولا أحبّ أن أراهم تعساء! سأذهب إلى غزّة أعطيهم هذه الهدايا وأعود، لن أتأخّر؛ فأمّي تنتظرني! هل أنت ذاهبة إلى هناك أيضا؟" تعجّبت أكثر من قبل واستفهمت عن والديه وهل من مرافق معه؛ لكنّه مهمه وأكمل بتقطّع: "أيمكنكِ أن تساعدينني كي أصل إلى الطّائرة المتّجهة إلى غزّة؟ المطار كبير ولم أعرف شيئا! أودّ أن أشتري تذكرة أيضا، أنظري معي مبلغا!" أدركت أنّ هناك خطبا ما، واستوعبت حال المشاكس الصّغير؛ فطمأنته قائلة: "لا تخف أنا موظّفة بالمطار، وسأساعدك حتما. أخبرني أوّلا أين والديك؟" لزم الصّمت ولم يجب. فلم تود أن تضغط عليه، وتبعث فيه الرّعب، قالت: "عموما لازال الوقت مبكّرا، لم تصل طائرة غزّة بعد. فما رأيك أن تصاحبني للقاعة الذّهبيّة نأكل شيئا؟ وبعدها نترافق في الرّحلة؟" أشرق وجهه فرحا؛ فقد وجد صاحبة لمغامرته. أعلمتنا برسالة أنّ هناك أمرا ما، وطلبت منّا الحضور إلى المكان. وقد علمت منه أنّ إسمه باسل ومن منطقة السّعادة، وأخبرها أنّه قد ركب الباص وساعده السّائق؛ فأوصله إلى المطار. يبدو أنّه خشي أن يضيع، وعلى ما يبدو أنّه تذاكى عليه كذلك كي يقنعه بكلّ هذا. وسنتحرّى الأمر بهذا الخصوص لاحقا. المهمّ علمنا أنّه الطّفل المفقود من ظفار الّذي عجّت بصورته وسائل التّواصل." هذا ما علمه أهل باسل من أمن المطار.
انتشر خبر العثور على باسل في مطار مسقط وهو ينوي ركوب الطّائرة إلى فلسطين محمّلا بهدايا في حقيبته المدرسيّة لإخوانه الأطفال بغزّة كالنّار في الهشيم على مستوى عمان كلّها. انبهر الكلّ؛ مواطنون ومقيمون بموقفه الباسل. أبدعت الأقلام في كتابة الخبر، وانتشر الأمر خارج السّلطنة. وانتصبت الهشتاجات بكلّ المواقع أهمّها #هبّة_باسل، وخلال سويعات قليلة تصدّر باسل الترند. تبنّت بعض الجهات حملة لتجميع إعانات لأطفال غزّة مؤيّدين بسالة باسل، أطلقوا عليها "هبّة باسل لغزّة".