حوارات وتحقيقات

الثلاثاء - 19 ديسمبر 2023 - الساعة 06:15 م بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/آراء واتجاهات

في الجيش، لا نساء تهوي أفئدة الرجال إليهن، فيتجه من لا خُلُق له إلى الشبان المراهقين، ولا سيما المردان. كانوا يسمون الفتى الوسيم "كبشا" والمجرم الذي ينكب الفتيان "جزارا".

كنا نسمع قصصا عن اغتصاب الجنود الأغرار أو ثقيلي المنام، منها قصة فتى مُستجد في معسكر طارق، ذهب لينام في الساحة، لينعم بأنسام خورمكسر الليلية العليلة بعيدا عن حر الثكنة. افترش ذلك الفتى الغِر بطانية، ونام متطرفا عن بقية الجنود، فانسل ثلاثة من الجزارين، وطووه في بطانيته، وقبل أن يستبين إن كان في حلم أم صحو، أخذوه بعيدا بين أكوام خردة السيارات العسكرية؛ لينكبوه بُعيد أن كمم أحدهم فاه بيده؛ ليكتم صوته، وثبت الآخر يديه، ثم أخذوا يتداولونه ...

وهناك قصة جزار يطلقون عليه المُشَحَّم، قيل إنه كان في معسكر طارق، حيث كان لواء النقل، ويقال إن هذه الأنماط الشاذة تكثر بين سائقي سيارات الجيش. يروى أن المشحم كان رجلا طويلا عَضِلا أسود، تعسر رؤيته في الليالي المظلمة، ولم يكن أحد يعرفه، وكان يسري "لجزر الكباش" متخذا قوته البدنية الهائلة عدته لإخضاع الضحايا، وكان لا يضع عليه من الثياب إلا معوزا قصيرا، ويدهن نفسه بشحم السيارات، فإن صودف أن كُشف انملص من بين أيدي مطارديه.

لعل قصة المشحم أسطورة اختلقها أحد العساكر؛ ليتسلى بتخويف المستجدين، أو لعلها من نمط قصص الوعاظ، أختلقها أحد الصالحين في الجيش؛ ليحفز شعور اليقظة لدى "الكباش"؛ لكيلا ينكبهم الجزارون، ولعله قد وصل بغيته، فطالما أرقتنا - معاشر الشباب- تلك القصص. كنا نخاف أن نطوى في البطانيات؛ لذلك كان من أهم مهارات الجندي النوم الخفيف، وسرعة اليقظة عند سماع أدنى حركة حول مهجعه. كان الجنود يطورون هذه المهارة المطلوبة لا لمواجهة متطلبات ميدان المعركة، بل ليأمنوا غائلة رفاق السلاح أن ينكبوهم، فمن اشتُهر عنه النوم الثقيل أو على البطن تعالمه الجزارون، وائتمروا به.

كانت النكات البذيئة الكثيرة الدوران بين العساكر تحكي حوادث اغتصاب وقعت لفتيان وسيمين، نومهم ثقيل، وكانت تُحكى قصص فتيان نبيهين استيقظوا حالما اقترب أحد الجزارين للفتك بهم. كانت هذه القصص ترسخ في عقول الفتيان، وتغدو كابوسا يطاردهم ويقض مضاجعهم.

أذكر حادثة وقعت آخر عام 1990م. كنت جنديا في الكتيبة الثانية من اللواء الخامس المظلي في العرقوب بخولان. كانت دِيَم قيادة الكتيبة تقابل دِيَم بطارية الهاون، وكانت ديمهم أخفض من ديمنا، ومداخلها مربعة وقصيرة، وليس لمعظمها أبواب تغلق عليها، ومن يريد دخولها لا يستطيع إلا جاثيا.

كان في تلك البطارية فتيان مراهقون وسيمون، وكان أحدهم اسمه محمود. كان الفتى أمرد أبيض بالغ الوسامة، وكان ثقيل النوم، فتعالمه أحد الجزارين المجرمين، واسمه سيف، فأضمر في نفسه الفتك بهذا الفتى الوسيم.

كان سيف برغم مظهره اللطيف الخادع مجرما بالفطرة، وقد سبق له أن قتل، وعُفي عنه في مقابل دية. وسمعنا أنه خلال حياته العسكرية غير المجيدة تمكن مرارا من الفتك بفتيان مراهقين، وكانت نفسه تتحرق للإيقاع بمحمود.

سيف - الرجل الثلاثيني الذي خدم في الجيش لما يربو على عشرين عاما منذ أن كان هو كبشا - قد كسب خبرات جمة في الوصول إلى الكباش، وقد حاول سيف مرات عدة التحرش بمحمود، لكنه وجد منه صدا عنيفا، فقد نخشه في أحد الأيام فوجه له لكمة قوية، كادت تكسر له ضلعا. وقرر - مما خبره - أن محمودا يمكن الوصول إليه، فالفتى ثقيل المنام، فقرر سيف أن ليس من حيلة نافعة مع محمود إلا الموس عند المنام، لكن يجب أن يغزو في ليلة ملائمة، فقرر أن يكون الموعد بعد أسبوع، فهو سيذهب إلى إجازة في عدن ثم سيعود. وقرر أن يجعل عودته ليلا مع الشاحنة الفيات القادمة من معسكر اللواء الخامس في بير ناصر، الذي صار مؤخرة للواء في عدن.

جهز سيف عدته تلك الليلة، فاشترى قارورة ڤوتكا، فهي في رأيه تهدئ الأعصاب وتمنح قدرة على إنجاز الأعمال، واشترى علبة أمواس ناسيت (أبو تمساح) الأصلية، فقد خَبِر حدتها التي تفوق غيرها وسرعتها في شق السراويل، فالخفة والسرعة في هذا العمل أمر حاسم؛ لكيلا يستشعر الكبش التقربات الأولية، فيفوت على الجزار مقصده.

وصل سيف إلى المعسكر تلك الليلة في الواحدة والنصف. وكانت ليلة شاتية قارسة ومظلمة من ليالي كانون، وزاد ظلمتها غيوم تلبدت في السماء. مر بي حين كنت في نوبة حراسة، وحين اقترب مني كانت تفوح منه رائحة خمر قوية. يبدو أنه استعان بالڤوتكا ليدفأ من زمهرير الطريق، ولم يبد عليه أنه قد شعر بالبرد، على أنه كان يرتدي جاكتاً خفيفاً ظهر عليه تحت أضواء السُرُج اليدوية، بخلافنا، نحن الحراس، الذين كنا نرتدي جاكتات روسية ثقيلة، ونشعر بالصَقعَة تلفح وجوهنا، وتقرص أكفنا، وتلف أفخاذنا وتتسرب من الحذاء العسكري إلى أصابع أقدامنا فتثلجها.

أخذ أحد الحراس يمازح سيفا، وهو يرد بمرح ولطف، ثم طلبنا منه سجائر، فأعطانا إياها بكرم يندر بين العسكر، ثم ذهب نحو بطاريته، وبقيتُ أنا والحراس الآخرين بعد ذهاب سيف لقرابة عشرين دقيقة؛ لنتم نوبتنا في الثانية صباحا، ثم أبدلتنا النوبة اللاحقة.

دخلت إلى ديمتي وأنا متعب من السهر ومن البرد الشديد، فاندسست تحت بطانيتين، ولما شعرت بالدفء رحت في غيبوبة النوم اللذيذة.

حين عاد سيف إلى ديمته، لم يتنبه له حارس بطاريته، ولعله قد حجبته عن الحارس خيمة ضخمة كانت تستعمل مخزنا لفصيل الشؤون الإدارية في كتيبة المظلات الثانية، كانت تحيط بها دِيَم بطارية الهاون على هيئة حرفي إل متقابلين عند طرفيهما القصيرين.

كانت ديمة سيف إحدى خمس دِيَم بُنيت على التوالي بشكل حرف إل، وكانت في منعطف الإل، وفي رأس الإل ديمة محمود، وكانت الديم الخمس تقع على الجانب الغربي من الشؤون الإدارية.

حين جلس سيف على فراشه شعر أن سَورَة السكرة قد خفت، فأخرج زجاجة الڤوتكا التي استعان ببعضها على زمهرير الطريق، وأخذ يجرع منها؛ ليعزز سكرته، وليبدأ عمله، فهو قاب قوسين أو أدنى من بلوغ مرامه، وشعر بالسكرة تعود إلى رأسه بقوة، فقرر أن يغزو غزوته ملتحفا بالظلام الدامس الذي سيحجبه عن أعين الحراس الذين يبعدون عنه قليلا.

خرج من باب ديمته في منعطف الإل، وسار منحنيا ملتصقا بالجدار حتى لا يتنبه له الحراس، وقطع مسافة الديمتين التي تفصل بينه وبين ديمة محمود، ثم انسل بخفة من باب الديمة، فأبواب الديم مداخل ليس لها أي مصاريع تغلقها.

كان يعرف أن محمودا يسكن منفردا، فلم يجد صعوبة في تحديد موضعه في الغدراء، فأخرج الموس، ومد يده أمامه، وتقدم خطوة ونصف، ثم انخفض قليلا، فأحس بظهر محمود من خلف البطانية، فعرف أنه نائم على بطنه، فسحب البطانية بخفة، وبنقلة، وضع يده المحترفة على مؤخرة محمود، وحدد موضع الشق، وبدأ يشق سراويله، وحالما وصلت يده إلى اللحم الدافئ وعرف أنها اللحظة المواتية، انقلب محمود بقوة، فأدرك أن الفرصة قد فاتته، فانسل سريعا عائدا إلى ديمته.

وفي ديمته، أخذ سيف يجرع ما تبقى من زجاجة الڤوتكا، والحسرة تأكل قلبه على فوات الهدف منه في آخر لحظة. وصحا رفيقه في الديمة، فقص عليه هامسا ما وقع، وأخبره نيته في معاودة الغزو، فظن زميله أنها من مَشعاته حين يسكر، فقال له:

- اهجع واتركنا ننم.

- لا، سأرجع، الفتى سراويله مشقوقة وجاهزة.

لم يرد عليه رفيقه وعاود نومه، أما سيف فقد لبث ربع ساعة أخرى، لعله قدر فيها أن محمودا قد رجع يغط في نومه، فانسل ثانية إلى باب ديمة محمود، فإذا ببندقية تنفجر في وجهه. أخطأته الرصاصة لكن صوتها أطار السكرة، فولّى هاربا إلى ديمته.

كان محمود بعد أن صحا من نومه قد أدرك ما جرى له، وكانت ملامس الأصابع الباردة التي انطبعت في ذاكرة جسده تشعره بعار شديد، وكان يتحسس السراويل المشقوقة على مؤخرته فيعظم شعوره بالكرامة المستلبة. كان كأسد جَرَحَ كرامته ضبعٌ على حين غرة. لم يعرف من أراد الإيقاع به، لكنه استل البندقية التي سلمت له للحراسة، وعمرها ببطء شديد؛ لكيلا يصل صوت التعمير إلى الخارج، أملا أن يعاود الجزار كرّته، وها هو حين عاد كان له بالمرصاد؛ ليثأر لكرامته الجريحة، فباشره بطلقة، لكنه أدرك أنه قد أخطأه، فخرج يطلق الرصاص تجاه الديم لعله يصيبه في الغدراء، التي كانت مع الهياج الشديد تحول بينه وبين رؤية غريمه.

توقف بعد رشقات وأخذ يصيح بصوته جهة الديم الأخرى في الإل:

- اخرج يا حقير! اخرج لو أنت رجل!
صحا على صوت الرصاص كل رفاقه من العسكر، وسمعوا صوته، لكنهم لم يخرجوا خشية أن يحصدهم محمود برصاصه، فلطالما سمعوا عن نوبات جنون أصابت بعض العساكر، فانطلقوا ببنادقهم يرمون زملاءهم.
واستيقظ عل صوت الرصاص قائد فصيل الشؤون الإدارية في كتيبتنا علي شمة، الذي كانت خيمته على مقربة من ديم بطارية الهاون، واتجه بسراجه تجاه الفتى الهائج، وصاح إذ اقترب منه: "ماذا هناك؟ لماذا رمي الرصاص؟"، رد عليه محمود وهو ما يزال هائجا: "الحقير الطرطور شق سراويلي بالموس، يريد أن ..."، فقال له بلهجة آمرة: "سلم البندقية!"، فسلم بندقيته، فقال له علي شمة: "من الذي جاء فوقك؟"، فرد محمود: "واحد من هذه الديم" وهو يشير بيده إلى الدِيم الواقعة في جزء الإل الأصغر، فأدار علي شمه مصباحه، ورأى كومة بشرية في منعطف الإل. اقترب منها وهو يسلط عليها السراج، وهاله ما رأى. كانت إحدى رصاصات محمود قد أصابت سيفا في رأسه حالما ولجت قدماه عتبة ديمته، فألقت به على الأرض، ورجلاه إلى الساقين في ديمته وباقي جسده خارج الباب، ونثرت شيئا من دماغه على جدار الديمة، بينما كانت بركة من الدماء الغزيرة قد تجمعت تحت رأسه يسبح فيها أجزاء من دماغه.

عوض القيسي