الوطن العدنية/كتب_علاء الحسني
لم تكن رائحة البارود قد تبخرت من سماء عدن حين تسلّم الشيخ الدكتور مختار الرباش مِلفَّاً أشبه بجمرة مُتوهجة: إعادة إحياء قطاع الحج والعمرة في بلدٍ يُصارع الموت. كان ذلك عام 2016، بعد تحرير المدينة من قبضة ميليشيات الحوثي، لكن التحرير لم يكن سوى البداية. كانت الطرقات ممزقة، والموانئ شبه مشلولة، والناس يُناضلون من أجل لقمة عيشٍ أو سفرٍ إلى الديار المقدسة. لم يتردد الرجل، الذي يُشبه وجهه خريطةً من تجاعيد الصبر، في خوض المعركة. فالحج ليس مجرد رحلة؛ إنه حلم اليمنيين المُعلق بين جبال الصبر وأودية اليأس.
لم تكن الأرقام سوى شاهدٍ على الواقع المرير. ففي عام 2017، لم يتجاوز عدد الحجاج اليمنيين 8 آلاف حاج، بينما كانت أعداد المعتمرين بالكاد تلامس 50 ألف معتمر. أرقامٌ هزيلةٌ أمام بلدٍ يزيد عدد سكانه عن 30 مليون نسمة. لكن الرباش، الذي يُتقن لغة الأرقام بقدر إيمانه بلغة القيم، قرر أن يُحوّل التحدي إلى سُلَّم.
بدأ بخطواتٍ عملية: تنسيقٌ مع المملكة العربية السعودية لزيادة الحصص، وإعادة هيكلة مكاتب الحج في صنعاء وعدن وحضرموت، وتسهيل إجراءات التأشيرات عبر منصات إلكترونية بالتعاون مع "برنامج راهِد" السعودي. لم تكن السعودية مجرد شريكٍ في التنظيم، بل كانت داعماً استراتيجياً. ففي عام 2018، أطلقت المملكة مبادرة "طريق مكة" لتسهيل إجراءات الحجاج في مطار عدن، وهو ما رفع العدد إلى 12 ألف حاجٍ ذلك العام.
رغم علامات الحرب التي ما زالت ظاهرة في شمال اليمن، استمر القطاع في النمو. في 2019، وصل عدد الحجاج إلى 15 ألفاً، والمعتمرين إلى 80 ألفاً. حتى الجائحة العالمية (2020-2021) لم تُثنِ الرباش عن هدفه. تحوّل التحدي إلى فرصة، أطلق مع السعودية منصةً رقميةً لتسجيل الحجاج، وتوزيعهم على مجموعات صحية مُراقبة. وانخفضت الأعداد مؤقتاً، لكنها عادت لتقفز إلى 20 ألف حاجٍ في 2022، و110 آلاف معتمر.
وفي 2023، مع استقرار جزئي في عدن، دشّن الرباش مشروع "الحجّ السلس" بالتعاون مع الخطوط الجوية اليمنية والسعودية، ليصل العدد إلى 23 ألف حاجٍ و130 ألف معتمر. أما في 2024، فتشير التقديرات إلى أن العدد سيتجاوز 25 ألف حاجٍ و150 ألف معتمر، بزيادةٍ تُقارب 300% عما كانت عليه الأرقام قبل ثماني سنوات.
لم تكن الأرقام وحدها سرَّ النجاح، بل فلسفة الرباش القائمة على "تبسيط ما اعْتَقَدَ الناس أنه مُعقد" نقل تجربته في العمل الخيري إلى القطاع الحكومي، فأنشأ مراكز خدمة في أحياء عدن الفقيرة لتسجيل الحجاج مجاناً، ودمج التقنية مع الإيمان: نظامٌ إلكترونيٌ لتتبع الحافلات من اليمن إلى مكة، وتطبيقٌ للشكاوى المباشرة اسمه، معتمرون بلا هموم
يقول أحد الحجاج من تعز: "كنا ندفع رشاوى لاستخراج التأشيرة، أما اليوم فالأمر لا يستغرق سوى 48 ساعة". هذه الشهادات جعلت اليمن يُدرج في تقرير "أسهل دول الحج إجراءات" الصادر عن رابطة العالم الإسلامي عام 2023.
لا يُمكن سرد القصة دون ذكر الدور السعودي،
السعودية هي الجار الذي يُمسك اليمن باليد في كل أزمة، الذي تجاوز الدعم اللوجستي إلى الشراكة الإنسانية. فمنذ 2017، خصصت المملكة 10% من حصص الحجاج لدول النزاعات لليمن، وافتتحت 4 مراكز طبية في عدن والمكلا لفحص الحجاج مجاناً. بل إن التنسيق وصل إلى حدٍّ غير مسبوق،إعفاء اليمنيين من رسوم تأشيرة العمرة مرتين سنوياً، وتخصيص رحلات جوية مباشرة من عدن إلى جدة خلال الأشهر الحرم.
يقول نائب وزير الحج والعمرة في المملكة العربية السعودية، الدكتور عبد الفتاح مشاط، اليمن جزءٌ منا، ودعم حجاجهم واجبٌ قبل أن يكون تعاوناً.
اليوم يُشار إلى قطاع الحج والعمرة اليمني كـ "معجزة إدارية" في تقارير دولية. لكن الرباش يرفض التمجيد: "النجاح ليس فردياً، بل هو ثمرة دماء اليمنيين الذين يُصرون على الحياة رغم الموت.
ربما تكون الأرقام خير دليل: 85% من الحجاج عام 2024 هم من الفئات الفقيرة، تم دعم نصفهم عبر صندوق الزكاة اليمني السعودي. أما النساء، فتمثل 40% من الحجاج، بعد أن كنّ محروماتٍ من السفر دون محرمٍ في سنوات الحرب.
في خورمكسر بعدَن، حيث كانت تدور المعارك، يقف الآن مبنى وزارة الأوقاف الجديد، وعلى واجهته لوحةٌ مكتوبٌ عليها: "هنا يبدأ طريق مكة". ربما هذه العبارة تلخص قصة القطاع: من رماد الحرب إلى نور الإيمان.
الرباش لم يُغيّر الأرقام فقط، بل أعاد للأمة درساً قديماً: أن الحج ليس مجرد مناسك، بل هو إرادة شعبٍ يرفض الانكسار. وكما قال لمراسل "عكاظ" العام الماضي: "لو امتلكنا القليل من الإمكانات، لنجحنا أكثر. لكننا نصنع النجاح من الهشاشة، لأن أحلام اليمنيين لا تُقاس بالموارد".
فهل يحتاج العالم أكثر من هذه العِبْرة؟