الوطن العدنية/الأيام_وهيب الحاجب
تغيّر واضح في خطاب المقاومة الوطنية ومكتبها السياسي بقيادة الفريق الركن طارق صالح، وهو تغير لا ينفصل عن تراكم خبرة السنوات الماضية وما أفرزته من حقائق قاسية على الأرض.
الصور المرفوعة في شوارع المخا، والشعار الذي يربط مأرب بالمخا ضمن ما سُمّي «مشروع الوطن الكبير»، يشير إلى فهم متقدم لطبيعة التفكير السياسي لدى هذه القوة.. تفكير بات أكثر تعايشًا وفهمًا للواقع وأقل ارتهانًا لشعارات أثبتت التجارب أنها عمّقت الانقسام وأعاقت الحسم.
المقاومة الوطنية، وفق هذا المسار، وصلت إلى قناعة بأن اللغة السياسية التي سادت في مراحل سابقة لم تعد قادرة على إنتاج حلول، وأن الإصرار على خطاب فضفاض حول الجغرافيا والحدود، دون مراعاة موازين القوى وتعقيدات المجتمع، أسهم في إطالة أمد الحرب، وخلق خصومات غير ضرورية مع أطراف يفترض أن تكون في خانة الحلفاء. هذا الإدراك قاد إلى مراجعة جادة، مضمونها أن الطريق إلى صنعاء لا يمكن أن يُفتح عبر تجاهل الجنوب أو القفز على قضيته، بل عبر بناء علاقة واضحة تقوم على الاعتراف المتبادل والمصالح المشتركة.
خطاب المقاومة الوطنية يشير إلى تخلٍ تدريجي عن شعارات الهيمنة والاستقواء، التي استخدمت سابقًا تحت عناوين وطنية عامة، لكنها عمليًا أفضت إلى إضعاف الجبهة المناهضة للحوثي. فالقوة التي تريد مواجهة مشروع إيران في اليمن، لا يمكنها الاستمرار في إنتاج خطاب يصطدم مع واقع سياسي واجتماعي مختلف، ولا يمكنها أيضًا تجاهل حقيقة أن الجنوب بات لاعبًا رئيسيًا يمتلك قرارًا وإرادة وقوة منظمة على الأرض.
من هنا يتقدم الحديث عن عمل سياسي مشترك وتنسيق عسكري بين عدن والمخا، باعتباره تطورًا منطقيًا فرضته الضرورة، لا مجاملة ظرفية. هذا التنسيق لا يقوم على إنكار الخلافات أو تذويب القضايا، بل على إدارتها ضمن إطار تفاهمات واضحة. في مقدمة هذه التفاهمات الاعتراف بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم واستعادة دولتهم، مقابل شراكة حقيقية في معركة استعادة الشمال وإنهاء سيطرة الحوثي على صنعاء وبقية المحافظات الشمالية والعمل معا على دعم وبناء وتنمية واستقرار وتأمين الشمال والجنوب وكل من موقعه وصفته.
هذا التوجه من الضروري ومن المؤكد أنه سيعيد ترتيب الأولويات، بحيث تصبح المعركة مع الحوثي هي العنوان المركزي، دون تحميلها بأعباء صراعات جانبية أو أوهام سياسية ثبت فشلها. فالقناعة التي تتبلور اليوم لدى أطراف في المعسكر الشمالي مفادها أن صنعاء لن تُستعاد إلا عبر جبهة متماسكة، وأن أي مشروع يتجاهل الجنوب أو يحاول استنزافه سياسيًا وأمنيًا سيظل مشروعًا ناقصًا، مهما امتلك من شعارات أو ادعاءات.
على الطرف الآخر يثير هذا التقارب قلقًا واضحًا لدى جماعة إخوان اليمن (حزب الإصلاح)، التي ترى فيه تهديدًا مباشرًا لموقعها ونفوذها، فهذه الجماعة بنت جزءًا كبيرًا من حضورها السياسي على خطاب مزدوج، يرفع شعارات مواجهة الحوثي علنًا، بينما يحتفظ بقنوات تواصل وتقاسم مصالح معه سرًا، إلى جانب استخدام التنظيمات المتطرفة كورقة ضغط وإرباك في مناطق مختلفة. أي تنسيق جاد بين عدن والمخا يعني تضييق المساحة أمام هذه الأدوار، ووضع الحوثي أمام معادلة عسكرية أكثر صرامة.
كما أن هذا المسار يضعف قدرة الإخوان على توظيف قضية "الوحدة" كأداة سياسية لعرقلة أي تسوية واقعية، ويكشف أن الإصرار على هذه اللغة لم يكن بدافع وطني خالص، بل لحماية مصالح حزبية ضيقة؛ لذلك ليس مستغربًا أن تتصاعد حملات التشكيك والتحريض ضد أي تقارب جنوبي شمالي خارج عباءتهم، أو أي خطاب يعترف بحق الجنوب دون شروط.
المخا التي كانت في مراحل سابقة جزءًا من خطاب سياسي يتجاهل خصوصيات الجنوب، تدخل اليوم مرحلة مختلفة، عنوانها المراجعة والبراغماتية. هذا التحول سيوصل إلى صيغة تقوم على دولتين متجاورتين، لكل منهما حدوده وسلطته، مع شراكة في الأمن ومواجهة التهديدات المشتركة، وفي مقدمتها الحوثي والجماعات المتطرفة. صيغة كهذه تقدم أساسًا أكثر واقعية للاستقرار والبناء، مقارنة بمشاريع أثبتت السنوات الماضية عجزها عن إنهاء الصراع.
في المقابل يبرز الموقف الجنوبي باعتباره عامل دعم أساسي لمعركة الشمال، انطلاقًا من فهم أن هزيمة الحوثي مصلحة مشتركة، شرط أن تكون هذه الشراكة قائمة على الاحترام لا الوصاية. الجنوب، من المهرة إلى باب المندب، يعلن استعداده للوقوف إلى جانب أي قوة شمالية جادة في استعادة صنعاء واجتثاث الحوثي والإرهاب، مقابل الاعتراف بحقه الكامل في دولته وخياراته السياسية.
بهذا المعنى فإن ما يجري اليوم بين عدن والمخا يضع أسس مرحلة جديدة، عنوانها الواقعية السياسية بدل المكابرة، والتفاهم الواضح بدل الصراع المفتوح، وهو مسار إن كُتب له الاستمرار، قد يقود إلى إعادة رسم خريطة الصراع على نحو أكثر اتزانًا وحسمًا.