الوطن العدنية/الأيام _وهيب الحاجب
تتكشف في الأفق معالم توجه دولي جديد نحو إعادة بناء تحالفات في الملف اليمني؛ وذلك بمؤشرات فعلية على دعم متزايد لقوات المقاومة الوطنية التي يقودها العميد طارق محمد عبدالله صالح، فيما يبدو أنه تحضير لمرحلة عسكرية حاسمة ضد جماعة الحوثي.
هذا التوجه الذي بدأ يأخذ طابعًا عمليًا من خلال الدفع باتجاه تسليح تلك القوات ورفع جاهزيتها، يعكس قناعة متنامية لدى أطراف دولية فاعلة بأن الحسم ضد الحوثيين لا يمكن أن يأتي من القوى التقليدية شمالًا، ولا حتى عبر تحالفات سياسية أثبتت عجزها، بل من خلال فاعل عسكري من صلب النسيج القبلي الشمالي، له ثأر سياسي ومشروع وطني واضح.
رجل مناسب لأرض صعبة
قوات المقاومة الوطنية بقيادة طارق صالح تحظى بتقدير متزايد في الأوساط الغربية، لكونها الطرف الأجدر بقيادة أي عملية عسكرية داخل مناطق الشمال، وهذا لا يعود فقط إلى البنية العسكرية والتنظيمية التي تتمتع بها هذه القوات، بل لاعتبارات أكثر تعقيدًا تتعلق بالبنية الاجتماعية والقبلية للمناطق الشمالية، التي لا يمكن أن تتقبل قوات جنوبية على أرضها، مهما كانت كفاءتها القتالية؛ إذ ويدرك صانعو القرار الغربيون أن أي تدخل عسكري جنوبي مباشر في الشمال قد يفجر حساسيات تاريخية قديمة مرتبطة بالصراع الشمالي الجنوبي، ويُفقد المعركة أولوياتها الوطنية ضد الحوثيين.
فشل "الإصلاح" وغياب البديل
من أبرز أسباب بروز طارق صالح كخيار دولي هو إدراك المجتمع الدولي، لاسيما واشنطن، لفشل حزب "الإصلاح" (الفرع اليمني للإخوان المسلمين) في إدارة معركة تحرير الشمال، فقد اتضح خلال السنوات الماضية أن هذا الحزب تعمّد تعطيل جبهات حيوية، وعقد تفاهمات غير معلنة مع الحوثيين، ما أعاق الجهود العسكرية لتحرير صنعاء ومحيطها، وأمام هذا الواقع بات من الواضح أن القوات التي تمكّنت من الحفاظ على وجودها وتماسكها دون الاعتماد على أجندات حزبية، مثل قوات طارق صالح، هي المؤهلة للعب دور الحسم في المستقبل.
دوافع شخصية وتاريخية
من زاوية أخرى لا يمكن تجاهل أن لطـارق صالح حسابًا مفتوحًا مع الحوثيين، الذين غدروا بنظام عمه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وقتلوه بدم بارد، فهذه الواقعة أوجدت بُعدًا شخصيًا لدى قائد المقاومة الوطنية، لكنه في الوقت نفسه وظّف هذه الدافعية في مشروع أوسع لاستعادة الجمهورية، بعيدًا عن الصراعات المناطقية أو الولاءات الخارجية. وهذا ما جعله محل رهان لقوى دولية تسعى لتوظيف العوامل الذاتية لصالح مشروع الدولة، لا ضده.
إشادة أمريكية مباشرة
المؤشرات على الدعم الدولي لقوات طارق لم تعد مجرد تحليلات ففي تقرير حديث صادر عن مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) ومقرها واشنطن، دعت المؤسسة الإدارة الأمريكية إلى تمكين القوات البحرية للمقاومة الوطنية ودعمها لوجستيًا وتقنيًا، بعد نجاحها في تنفيذ واحدة من أكبر عمليات ضبط تهريب السلاح الإيراني إلى الحوثيين.
العملية، التي جرت في 27 يونيو الماضي وأسفرت عن ضبط 750 طنًا من الأسلحة، حظيت بإشادة مباشرة من الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأمريكية، واعتُبرت تحولًا نوعيًا في مسار المواجهة مع إيران وأذرعها بالمنطقة.
تقرير FDD لم يقف عند الإشادة، بل ذهب إلى رسم معالم استراتيجية متكاملة تقوم على دعم مالي وتقني مباشر للمقاومة الوطنية، ودمج هذا الدعم في خطة أوسع لفرض حظر بحري صارم على تهريب الأسلحة الإيرانية، مع التنسيق لشن ضربات استباقية على مواقع الحوثيين.
هذه الرؤية تُفهم في سياق رغبة واشنطن في استثمار "شركاء محليين فاعلين" كما سمّتهم، في إشارة واضحة إلى قوات طارق.
الرهان على الممكن
يمكن القول إن أطرافًا دولية فاعلة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بدأت تدرك أخيرًا طبيعة الصراع اليمني بتعقيداته الجغرافية والتاريخية، وراحت تبحث عن "شريك مقبول محليًا" في جغرافيا الشمال، فوجدت في طارق صالح ضالتها، لكن هذه المقاربة، رغم واقعيتها من زاوية الشمال، تتجاهل عن قصد أو دون قصد الجنوب كطرف ميداني حاسم، يملك أرضًا محررة وقوات مدرّبة، ومشروعًا سياسيًا متماسكًا.
استبعاد الجنوب من هذه المعادلة قد ينجح تكتيكيًا في إطلاق شرارة المواجهة مع الحوثي، لكنه سيظل عامل قلق استراتيجي ما لم يُعالج ضمن تصور شامل، يعترف بتعدد الفاعلين المحليين، ويمنح الجنوب مكانته في أي تسوية سياسية أو عسكرية قادمة.
مخاوف جنوبية
من الطبيعي أن تتنامى في الجنوب مخاوف حقيقية من أن يؤدي تقوية طرف شمالي بعينه إلى إضعاف المجلس الانتقالي وقضيته السياسية، سيما مع غياب أي إشارات إلى نية تلك القوى، وفي مقدمتها قوات طارق صالح، التعامل بندّية مع الجنوب أو احترام تطلعاته.
فمن المعروف أن معظم الأطراف الشمالية، سواء كانت عسكرية أو سياسية، ما زالت تنطلق من مشروع إعادة فرض الوحدة على الجنوب بالقوة، وهو ما يعيد إلى الأذهان سيناريوهات المواجهة التي لطالما كان الجنوب ضحيتها.
ومع أن البوصلة اليوم تبدو موجهة شمالًا نحو صنعاء، إلا أن تحذيرات عديدة تتصاعد في عدن من احتمال انحراف المعركة لاحقًا نحو الجنوب، بل والبدء باستعادة عدن قبل صنعاء إن أُتيحت الفرصة.
اللافت أن هذه المخاوف لا تصدر عن خطاب شعبوي، بل عن قراءة واقعية لمجريات الأحداث يؤكدها غياب أي ضمانات ملزمة تكبح جماح الأطراف التي ما زالت ترى في الجنوب مجرد "ملف" يجب حسمه لاحقًا.
يقابل هذا النهج موقف مسؤول وهادئ من جانب المجلس الانتقالي الجنوبي وقواته العسكرية، التي رغم قوتها وانتشارها وقدرتها على الحسم، اختارت الانضباط الكامل والعمل ضمن المسار الأممي الذي يدعمه التحالف العربي، دون أن تفرض مشروعها السياسي بالقوة، رغم أحقية ذلك وفق معايير الواقع والانتصار.
فهل ستلتزم قوات طارق صالح في حال تم تمكينها بشكل كامل بالمعركة الحقيقية ضد الحوثيين، أم ستعود لخطاب التغني بالوحدة واستفزاز الجنوب؟ الجواب، طبعا، ليس في التصريحات، بل في الميدان، وما لم تُقرن هذه التحركات الدولية بخارطة توازن واقعية تضمن حقوق كل الأطراف، فإن الرهان على النصر في صنعاء قد يُستبدل بصراع متجدد في عدن.
الجنوب.. الغائب الحاضر
وبعيدا عن فرضية تحويل البوصلة جنوبا فإن هذا الحراك المتسارع قد يدفع الطرف الجنوبي إلى طرح تساؤلات مشروعة من قبيل: أين موقع الجنوب من هذه الترتيبات؟ لا سيما أن القوات الجنوبية هي الوحيدة التي حققت نصرًا ميدانيًا حقيقيًا ضد الحوثيين، بدءًا من عدن وصولًا إلى شبوة وأبين.
ومع ذلك، لا تظهر أي مؤشرات عن نية الأطراف الدولية إشراك الجنوب في أي ترتيبات مستقبلية تخص الشمال، أو حتى تقديم ضمانات بشأن مستقبل الجنوب السياسي والعسكري.
هذا التجاهل، الذي قد يكون ناتجًا عن تعقيدات الملف الجنوبي وتشعباته، يحمل في طياته خطر إعادة إنتاج التوترات المناطقية والانتقاص من دور شريك أساسي في معركة استعادة الدولة.