الوطن العدنية/إعداد القاضي أنيس جمعان
▪️قال اللَّه تعالى: { وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } ، (سورة يس :20) ..*
*▪️لم يعرف المسلمون الرجل الذي ورد ذكره في القرآن الكريم إلا بالسعي، وجهل أغلبهم أسمه ولكنهم عرفوا فعله، إنه حبيب نجار أو حبيب النجار أو مؤمن آل ياسين هو رجل صالح كان يسكن قرية في بلاد الشام قيل أنها أنطاكيا، وهو الرجل الذي نزلت في حقه هذه آيات من سورة يس قال تعالى: { وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، (الآية 20)، وذكر أيضاً عن حبيب النجار هو حبيب بن مري، فعن ابن عباس، وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان رجلاً من أهل أنطاكية، وكان أسمه حبيباً، وكان يعمل الجَرير، وكان رجلاً سقيماً، قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصياً، وكان مؤمناً ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون، فيقسمه نصفين، فيطعم نصفاً عياله، ويتصدق بنصف، فلم يهمَّه سقمه ولا عمله ولا ضعفه، عن عمل ربه، قال: فلما أجمع قومه على قتل الرسل التي أرسلها اللَّه لقومه، بلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم باللَّه، ويدعوهم إلى أتباع المرسلين، فقال "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ "(سورة يس:20) ..*
*وصف اللَّه حال القرية التي كان يسكنها حبيب النجار في القرآن الكريم في سورة يس :*
➖➖➖
*▪️قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ۚ أَئِن ذُكِّرْتُم ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)) ..*
*▪️أخبر اللَّه في هذه الآيات من سورة يس أنه أرسل إلى أهل قرية أثنين من الرسل يدعوانهم إلى عبادة اللَّه تعالى وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، فبادروهما أهل القرية بالتكذيب، فعززهما اللَّه وقواهما برسول ثالث، وعندما قال المكذبون من أهل القرية ماقالوا من التكذيب، قالت لهم رسلهم إنا رسل اللَّه إليكم ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، ولكن أهل القرية تمادوا في طغيانهم وراحوا يتطيرون بهؤلاء المرسلين ويقولون كما قال قتادة إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم وإنكم إذا لم تنتهوا فسوف نرجمكم بالحجارة وسيصيبكم منا عقوبة شديدة، فقالت لهم رسلهم إن طائركم معكم مردود عليكم وأنتم ما قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا إلا من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد اللَّه وإخلاص العبادة له بل أنتم قوم مسرفون لتطيركم وكفركم وفسادكم ..*
*▪️يحدّثنا اللَّه تعالى في هذه الواقعة التاريخيّة، عن الإيمان القويّ لهؤلاء الرّسل، وعزيمتهم الصّلبة في مواجهة تحدّيات المشركين، وفي دعوتهم لعبادة الواحد الأحد، وتوحيده والإخلاص له، ولقد تحمّلوا الكثير من المشاقّ والعذابات، وصبروا على الأذى في سبيل خدمة الرّسالة وفدائها بالموقف والسّلوك العمليّ الّذي يصدم الواقع المتحجّر نتيجة سيطرة العقلية الوثنيّة في تلك النواحي، بينما أخذ بعض أهالي القرية، يتساءلون حول هذه الدعوة، ومن اللَّه الإله الواحد، وماذا عن الآلهة التي يعبدونها وآبائهم، وأثيرت ضجة كبيرة حول دعوة الرسل، وسمع بهذا الحديث، رجل في منطقة بعيدة عن القرية، فأدخل اللَّه الإيمان إلى قلبه، وآمن باللَّه وبرسالة الرسل الثلاثة ، وكان هذا الرجل نجاراً يسمى حبيب النجار، كان يعمل في مدينة أنطاكيا، فالتقى بالأنبياء الثلاثة فسألهم: من أنتم .. فقالوا أنبياء، ودار بينهم حوار، فأسلم لهم، وتفقه على أيديهم، فأصبح داعية من الطراز الأعظم الفريد، ولكنه وجد أهل أنطاكية يكذبون هؤلاء الرسل، فجاء حبيب النجار (مؤمن آل يس) يدعو قومه إلى الإيمان وتصديق الرسل، فحدثهم حبيب النجار عن أسباب إيمانه، وناشد فيهم الفطرة السليمة التي أستيقظت فيه فقال: "ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون؟ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولاينقذون؟ إني إذاً لفي ضلال مبين"، وأعلن إيمانه أمام أهل القرية جميعاً، مطالباً إياهم بالإيمان باللَّه أيضاً، وتصديق رسله، الذين لا يريدون أجراً ولا مالاً، وإنما فقط يبلغون رسالة اللَّه، ولكن ماكان من أهل القرية إلا أن قتلوه، وهناك روايتان حول مقتله، فالأولى أنهم انهالوا عليه ضرباً حتى الموت، والأخرى أنهم حفروا له حفرة، وأخذوا يرجمونه بالحجارة، بينما كان الرجل بين أيديهم في أي من الوضعين، كان رافعاً يديه يدعو اللَّه أن يهديهم لطريقه، حتى مات ..*
*من هم الرسل الثلاثة في سورة يس:*
➖➖➖
*▪️يُذكر أن هذه القرية المذكورة في هذه القصة هي أنطاكية، وكان أهل هذه القرية يكفرون باللَّه تعالى؛ فأرسل اللَّه تعالى إليهم رسولين ؛ فكذبوا الرسولين ولم يؤمنوا، فأرسل اللَّه رسولاً ثالثاً لعلهم يعودا إلى اللَّه، غير أن موقف أهل هذه القرية لم يتغير مع وجود الرسول الثالث، وأنكروا رسالة الرسل ونبوتهم، كما أدعوا التشاؤم منهم، ولم يكتفوا بذلك بل هددوهم بالقتل، وقد أكد لهم الرسل أن هذا التشاؤم من داخلهم وأنهم قوم يسرفون في الظلم والعدوان، وهناك خلاف بين المفسرين حول هؤلاء الرسل، ولقد ورد عن ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن أسم الرسولين اللذين أرسلهما اللَّه لأهل القرية في بداية الأمر هما شمعون ويوحنا، أما الرسول الثالث فكان يُدعى بولس، وقد قيل أن المسيح عليه السلام هو الذي أرسل الرسل الثلاثة إلى أنطاكية التي تُعتبر من أقدم مدن الشام من أجل نشر الدعوة إلى اللَّه فيها، ولكن من الراجح عند العلماء أن قصة أصحاب القرية قد وقعت قبل أن يأتي المسيح عليه السلام، وبذلك فإن هؤلاء الرسل لم يكونوا مرسلين من قِبل المسيح ولكن أُرسلوا من عند اللَّه عزّ وجل ..*
*▪️أختلف المفسرون في هؤلاء الرسل الثلاثة الذين ضرب اللَّه بقصتهم مثلاً في سورة (يس)، هل هم من رسل اللَّه عز وجل، أم من أصحاب سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ؟؟.. والصواب من أقوال المفسرين أن هؤلاء المرسلين كانوا رسلاً للَّه قبل سيدنا المسيح (عليه السلام)، وأنهم كانوا قد أرسلوا إلى أهل أنطاكية، وآمن بهم حبيب النجار، وقد قيض اللَّه لهؤلاء الرسل من يدافع عنهم فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، قيل إن أسمه حبيب النجار، وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة، وقيل كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة اللَّه فقال هل من آية؟ قالوا: نعم ربنا على مايشاء قدير وهذه لا تنفع شيئاً ولاتضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف اللَّه ما به كأن لم يكن به بأس، فحينئذ أقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بكسبه فأطعم عياله نصفاً وتصدق بنصف، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم فوعظهم أحسن ماتكون الموعظة وذكرهم بحق اللَّه من العبادة والـتعظيم فقتلوه فما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها: وفيه قول اللَّه له: {قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ}، فلما شاهدها قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ} قال الإمام القرطبي: والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له أدخل الجنة، وقال قتادة بن دعامة: أدخله اللَّه الجنة وهو فيها حي يرزق أراد قوله تعالى :{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .. [سورة أل عمران:169] ..*
*▪️لم يتمكن أهل القرية من المرسلين الثلاثة الذين ذكرهم بن جريج بأنهم كانوا شمعون ويوحنا وعززهم اللَّه ببولس وقال بن كثير أن قتادة زعم أن الثلاثة كانوا رسل المسيح عليه السلام لأهل أنطاكية.. ولما أوشكوا على الخروج من القرية حذروهم من عقاب اللَّه لهم بعد تعنتهم وقتلهم لحبيب النجار الصالح فإستهزأ القوم منهم وقالوا كيف سيكون العقاب هل ستنزل علينا جنوداً من السماء تقاتلنا، وكان عقابهم من ربهم ولتكون قريتهم عبرة وعظة لأولي الألباب، فكان قول اللَّه تعالى في سورة يس: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ (28) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29))، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: فأهلك اللَّه ذلك الملك، وأهلك أهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية، فبعدما عذب اللَّه أهل انطاكية، فقد أعتبر كثير من الناس بهذا العذاب ودخلوا في النصرانية الأصيلة وقتها ..*
----------------------------------