الوطن العدنية/كتب_علاء الحسني
اليمن الذي عاش سنواته الأخيرة متقلبا بين الحرب والانقسام..لمعت إشارة ضوء وأمل من وزارة الداخلية عندما أعلن معالي اللواء الركن إبراهيم علي حيدان اكتمال منظومة البطاقة الشخصية الذكية البيومترية مقرونة بجواز سفر إلكتروني يلتزم بمعايير منظمة الطيران المدني الدولي،خطوة تبدو للوهلة الأولى إجراء تقنيا لكنها في عمقها معركة سيادة يخوضها الوزير على جبهات الأمن والسياسة والاقتصاد والمجتمع معاً...فمنذ أن تولى معالي وزير الداخلية اللواء الركن ابراهيم حيدان حقيبة الداخلية وهو يدرك أن الدولة لا تستعيد عافيتها إلا إذا أعادت إلى هويتها هيبتها،ذلك أن أكثر من ستين في المئة من معاملاتنا الورقية ظلت على مدار عقد كامل عرضة للتزوير وفق إحصاءات رسمية رفعت إلى مجلس الوزراء عام 2023، الأمر الذي جعل الوثائق اليمنية موضع ريبة لدى المطارات الدولية وأغلق السماء في وجوه مواطنينا
التصميم الجديد للبطاقة يضع في شريحتها الإلكترونية بصمة الإصبع وصورة الوجه والتوقيع الرقمي مشفرة بخوارزمية AES-256 ويمنح كل مواطن شهادة توقيع عمومي تصادق عليها بنية تحتية مفتاحية أنشأتها الوزارة بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وهي ذات التقنية التي تعتمدها إستونيا وألمانيا لتأمين سجلاتها المدنية...هذا المستوى من الحصانة أدى خلال مرحلة الاختبار في عدن وتعز إلى اكتشاف ثلاثة وأربعين ألف سجل ثنائي خلال أقل من ثلاثة أشهر، وهو رقم يكشف حجم التسرب المالي الذي ظل يستنزف خزينة الدولة عبر مرتبات تصرف لأسماء مكررة أو متوفاة، إذ تقدر وزارة المالية أن توفير هذه الفجوات سيقلص فاتورة الأجور السنوية بما لا يقل عن ثمانية وعشرين مليون دولار ابتداء من العام المقبل
أما على الصعيد الأمني فتقاطع قواعد بيانات البطاقة مع نظام البصمة الآلي AFIS ومشروع الربط مع مركز إنتربول I-Checkit سيحول نقاط العبور في مطار عدن وميناء المكلا إلى بوابات إلكترونية قادرة على التحقق من هوية المسافر في أقل من ثانيتين،وهو معيار زمني يطابق متطلبات الملحق السابع لاتفاقية شيكاغو...هذه السرعة لا تنقذ الوقت فحسب بل تكشف الهويات المنتحلة التي تسللت في سنوات الانفلات إلى مناطق سيطرت عليها الميليشيا الانقلابية واستعملتها في تهريب الأموال والسلاح،وفي عملي اليومي كضابط في مصلحة الهجرة والجوازات كثيرا ما وقفت أمام جواز يحمل ختما صحيحا ووجها مزيفا،ولكن مع ظهور البطاقة الذكية سيصبح فضح التضارب بسرعة كبيرة قبل أن يلتقط المزور أنفاسه سيكشف أمره
الوزير حيدان يتعامل مع الهوية بوصفها استثمارا سياديا لا يقل عن النفط والغاز، فحين توثق الدولة مواطنيها توثق تجارتها أيضاً، إذ يشترط مانحو خطوط الاعتماد الدولية ـ وعلى رأسهم مجموعة العمل المالي والاتحاد الأوروبي ـ شفافية أنظمة التعرف الرقمي قبل ضخ أي تمويل أو فتح قنوات تبادل مصرفي،ولذا كانت الخطوة التالية بعد البطاقة هي الانضمام الكامل إلى معايير منظمة الطيران المدني الدولي الخاصة بالجوازات الإلكترونية، وبمجرد أن أدرج اليمن في قاعدة PKD العالمية أزال ذلك آخر تحفظات شركات التأمين الجوي التي ظلت ترفع أقساط الطيران نحو مطار عدن خمس عشرة في المئة فوق المتوسط الإقليمي...ولا يخفى أن خفض هذا القسط سينعكس فورا على أسعار التذاكر وحجم حركة المسافرين بما يضخ موارد إضافية لهيئة الطيران المدني ويعيد تنشيط القطاعات الخدمية المرتبطة بالمطارات
اجتماعيا تمنح البطاقة الذكية المرأة اليمنية أول وثيقة تعريف محصنة ضد العبث تسهل إجراءات استخراج جواز السفر وملكية الأرض والحصول على القروض الصغيرة، وتفتح للنازحين من محافظات المواجهات باب التسجيل المتنقل إذ جهزت الوزارة وحدات ميدانية تضم مولدات وطابعات حرارية وتنتقل أسبوعيا بين المخيمات لتستخرج الوثائق في المكان نفسه،وقد بلغ عدد المستفيدين من هذه الخدمة حتى منتصف يونيو أكثر من مئة وتسعة عشر ألف شخص بحسب تقرير قطاع الأحوال المدنية...هذه المرونة لم تأت دون عناء،إذ اضطر الوزير إلى إعادة هيكلة ثلاثين فرعا متهالكا للأحوال المدنية وربطها بشبكة ألياف ضوئية جديدة تم مدها تحت نيران جبهات ما تزال مشتعلة، ومع كل صعوبة حافظ الوزير على هدوء نادر،كان يقود الاجتماعات اليومية عبر دائرة مرئية،يتابع لوحة مؤشرات تظهر في الزمن الحقيقي عدد البطاقات المصدرة وعدد الطلبات المعلقة والأعطال الفنية،وحين يتعطل خادم في مأرب يطلب من الفريق الفني هناك فتح الكاميرا لإثبات الإصلاح قبل الانتقال إلى فرع حضرموت
دعم الحكومة الشرعية بدا واضحا حين أقر مجلس الوزراء في جلسته الثانية عشرة للعام 2025 تمويلا تكميليا بلغ تسعة ملايين دولار لتوسعة خوادم مركز البيانات الوطني بعد أن بلغت نسبة الإشغال سبعة وثمانين في المئة لحظة الإطلاق الرسمي،كما شاركت وزارة الاتصالات بتخصيص طيف ترددي آمن لتبادل البيانات بين مواقع التسجيل والقاعدة المركزية،بينما قدمت المملكة العربية السعودية محطة طاقة شمسية بسعة اثنين ميغاواط لمجمع الإصدار في عدن لضمان استمرار الخدمة في حال انقطعت شبكة الكهرباء العامة...وليس سراً أن خطوط التدريب على تكنولوجيا البطاقات جاءت من جمهورية باكستان عبر خبراء NADRA الذين أمضوا أربعة أشهر في نقل الخبرة الميدانية لفنيينا
كل هذه الجهود توجها الوزير بتعميم رقمه خمسة وثلاثين لسنة 2025 الصادر فجر الأحد الماضي الذي قضى بتعليق أي إصدار أو تعديل في جوازات السفر ما لم يقدم صاحب الطلب بطاقته الذكية،وهو قرار لم يكن ليجرؤ عليه وزير لو لم يكن واثقا من الجاهزية الفنية لمصالحه التنفيذية،فالقرار في لحظته الأولى أوقف بضعة آلاف من معاملات تعديل بيانات كانت تنتظر في فروع المصلحة، لكنه في المقابل أعاد توجيه تدفق المواطنين إلى مراكز البطاقة لتأمين بياناتهم أولاً
يبقى أن يدرك كل مواطن أن هذه المنظومة لا تكتمل إلا به،إذ تحرر البطاقة حاملها في المستقبل من أعباء التصديقات الورقية وتمنحه حق التوقيع الإلكتروني في المعاملات التجارية وتقلل تكلفة التحويلات المالية التي ظل المغتربون يدفعون فيها أعلى عمولة في المنطقة بسبب تصنيف المخاطرة،وحين يستجيب المجتمع لهذا التحول سنطوي صفحة الهويات الرمادية ونفتح صفحة دولة رقمية أصيلة لا تتسلل إليها أشباح الأسماء المستعارة،عندها فقط ستلبس اليمن ثوبها الذي تستحقه دولة ذات سيادة على حدودها البرية وجوازاتها وجسور سمائها، دولة وقع الحيدان على عقد ميلادها الجديد وهو يستجمع بصبر الجندي وذكاء المخطط وحلم السياسي كل ما يلزم لانتشال وطن كان يقف على الحافة فأعاده إلى خرائط الثقة الدولية....لا تتسرب منها الذرات