مقالات وآراء

السبت - 06 سبتمبر 2025 - الساعة 04:14 ص بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/مقال لـ”أبو زين ناصر الوليدي”


في النصف الأول من الثمانينات، كانت في قريتي الصغيرة منصب (أورمة- مودية- أبين) كلبة اسمها (قدرية)، لا أزال أتذكر شكلها، حمراء عضباء هزيلة عجوز، إلا إنها كانت كثيرة الإنتاج، فلا يمر زمن حتى تضع أكثر من خمسة جروان، وبحكم أننا كنا أطفالا، فإنا كنا نتسابق على تلك الجروان، وكل واحد منا يضع علامة في أحدها، ويطلق عليه اسما، ليصبح ملكه، ليقوم برعايته إلى جانب أمه الرؤوم (قدرية) الكلبة سليلة الكلاب.

ومما أتذكره أن جارنا الذي نلقبه (امصيني) كان معه جرو أحمر سماه (صاروخ)، وكان يعتني به أشد العناية، حتى أنه كان يشتري له علبة حليب (دانو) ب ٢٥ شلن، ويشتري معها مصاصة، فكان يطعمه لبن الدانو صباحا و مساءا، حتى سمن صاروخ وسبق إخوانه في الحجم والحركة، لا أزال أتذكر جارنا امصيني وهو يخبط لبن الدانو لصاروخ في (ديمة جدي معرج)، وصاروخ ينعم بأجود أنواع الحليب الدانمركي، عندما كان الدانو دانو تعلوه طبقة صفراء وكأنها الزبدة.

وكنا حينها نشتري كرتون دانو ( ٦ علب) بمائة وخمسين شلن، ونشرب منه قبل النوم وفي الصباح، ونطعم منه صغار الغنم، كدعم إضافي إلى لبن الأمهات.

كان ذلك كله في زمن كلبتنا الراحلة قدرية، أحد أهم رموز الكلاب في ذلك الزمن الجميل، ولو كانت تمنح شهادات تقديرية لأكثر الأمهات إنتاجا، لحازت قدرية قصب السبق في كل عام.

تذكرت الراحلة قدرية وجروانها وصديقي امصيني وجروه صاروخ، حين أصبح اليوم ( الدانو) يعد من الترف لا تصل إليه أيدي معظم الناس، في وقت لا يكاد يجد المواطن السلع الأساسية لأسرته، فضلاً عن الدانو الذي تجاوز سعر العلبة الواحدة الأربعين ألف ريال، وهي تقريبا نصف راتب معظم الموظفين، وطبعا إنما هو دانو معدل، لم يعد ذاك الدانو المكثف زمن الراحلة قدرية، وإلا لتجاوز سعره المئة ألف.

لقد ماتت قدرية وهي قريرة العين سعيدة بحال أبنائها ومايتناولونه من أجود أنواع الحليب الدانمركي....

لم تكن تدري قدرية أن امصيني الذي لم يكن يبخل على صاروخ بعلب الدانو، أنه شب وكبر وتزوج ورزق أولادا، ولكنه لم يستطع أن يشتري علبة دانو لأحد من أولاده، ليس هو وحده، بل كل الأطفال الذين كانوا يحتفون باليوم الذي تضع فيه قدرية جروانها.

لقد أصبح حلم الواحد اليوم أن يحصل أولاده على ماكان يحصل عليه جرو من جروان قدرية، بعد أن انحدرت أحوالنا وتغيرت معادلات الحياة، ودخلنا في متاهات غير متناهية...

قبل مدة لقيت صديقي امصيني فتبادلنا أطراف الحديث عن زمن الطفولة، حتى وصل الكلام إلى لحظات قدرية وصاروخ وعلبة الدانو فتنهد جاري القديم تنهيدة كادت أن تقطع نياط قلبه ثم قال: والله إني عجزت أن أشتري لولدي ما كنت أشتريه لولد قدرية....
منتدى مودية