الوطن العدنية /إعداد القاضي أنيس جمعان
*قـصـة رائـعـة مـن صـحـيـح الـبـخـاري ومـسـلـم ..*
*من أعجب القصص التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ العظة والعبرة خبر ثلاثة من بني إسرائيل إبتلاهم الله تعالى بالضراء ، ثم قلب ضراءهم إلى سراء ؛ ليظهر منهم شاكر النعمة من جاحدها ، وهي قصة يحتاج إلى الاعتبار بها كل مسلم ؛ فإن الإنسان لاينفك في حياته عن إبتلاءات السراء والضراء ، وهو في الغالب يتقلب بين الشدة والرخاء ، فليأخذ العبرة ممن سبقوا حتى يحسن التعامل مع البلاء ، ويوظف الضراء والسراء في مرضاة الله تعالى ، وذلك بالصبر والدعاء في الضراء ، والحمد والشكر في السراء ..*
*حـديـث الأبـرص والأقـرع والأعـمـى ⬇*
➖➖➖➖➖
*روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ ، وَأَقْرَعَ ، وَأَعْمَى ، فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَناً وَجِلْداً حَسَناً ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ - أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ ، شَكَّ إِسْحَاقُ - إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ ، أَوِ الْأَقْرَعَ ، قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ- قَالَ: فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ، فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا ، قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذَرَنِي النَّاسُ ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ ، وَأُعْطِيَ شَعَراً حَسَنًاً ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً ، قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا ، قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي ، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِداً فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا .. قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ ، قَدِ أنْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي ، فَلَابَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ ، وَالْمَالَ ، بَعِيراً أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي ، فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً ، فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ ، قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ .. قَالَ: وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ ، انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ، شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي ، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ ، إِنَّمَا إبْتُلِيتُمْ ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» ..*
*صحيح البخاري برقم 3464 بلفظ: بدا لله ، وصحيح مسلم برقم 2964 واللفظ له ..*
*لفظ مسلم: «فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ» وهو رواية عند البخاري ..*
*صحيح مسلم برقم 2964، ورواية البخاري برقم 6653..*
*مـحـتـوى الـقـصـة* ⬇
➖➖➖➖➖
*ثلاثة من بني إسرائيل لعلهم كانوا يسكنون مدينة واحدة ، أصاب الله كل واحد منهم بأفة ومرض في جسده ، الأول أصابه برص ، وهو مرض يظهر بياضاً على جلد الإنسان ، والثاني أقرع سقط شعر رأسه والثالث أعمى لايرى شيئاً ، وقد إبتلاهم الله بهذه الأمراض وأرسل لهم ملكة ، فجاء الملك إلى الأبرص وقد ساءت حاله وملت نفسه ، وهزل جسده ، وأنفرد جالساً وحده ليس له صاحب يوده إلا الأقرع والأعمى ، تلطف الملك في الحديث معه ، وجلس أمامه ، وقال له: أي شيء أحب إليك ؟ صمت الأبرص قليلاً .. ثم قال: أحب أن يكون لون جسدي حسن جميلاً فيزول البرص عن جلدي ، وقد يئست من نفور الناس مني لمرضي ، فلو كان لون جلدي عادياً جميلاً لما نفر مني الناس كما ينفرون من القاذورات ، وكانت المفاجأة عندما مسح الملك على جلده ، فزال عنه البرص وأصبح جلده عادية حسنة ، وزالت عنه الأم ، وأستردت نفسه الأمل والعافية ..*
*فرح الرجل فرح كثيراً وكأنه أكتفى بهذه النعمة العظيمة التي من الله بها عليه ، ولكن الملك أضاف إلى سعادته سعادة أخرى وإلى فرحه فرحاً أخر وقال له: أي المال أحب إليك ؟ قال الإبل ، فأعطاه الملك ناقة عشراء وتوشك أن تلد صغيرها ، ثم دعا الملك له وقال: يبارك الله لك فيها ، أخذ الرجل الأبرص الناقة بعد أن شفاه الله من مرضه ، فولدت الناقة وليدها كبر وتوالدت حتی أصبح له قطيع هائل من الإبل والنوق كان يشار إليه بالبنان لغناه وكثرة أمواله من الإبل ، وأصبح يتمتع كثيرة بنعمة الله عز وجل ..*
*أما الملك فقد أتى الأقرع بعد أن فرغ لتوه من الأبرص ، فوجده مهموماً من شكله وقراع رأسه ومايجلبه عليه من آلام في الرأس والأم نفسية ، حيث ينظر له الناس على أنه أقرع غير مقبول لديهم ، وفيما هو على هذه الحال جلس الملك أمامه وهش له وقال: أي شيء أحب إليك ؟ فكر الأقرع قليلاً ثم قال: لاشيء أحب إلي من شعر حسن طويل يذهب عني القراء ، ويجعلني محبوباً بين الناس وقد تركوني وإنفضوا من حولي لسوء منظري وقبح شكلي ، وعلى الفور مد الملك يده ومسح على رأسه فذهب عنه القراع وأستطال شعره ، وأصبح جميلاً حسناً مقبولاً من الناس ، وفرح فرحاً شديداً ، وكأنه اكتفى بتحقيق هذا الحلم الذي طالما حلم به كثيرة ، ولكن الملك ريت على كتفه وقال له: أي المال أحب إليك ؟ فقال الرجل الذي كان أقرعاً ومن الله عليه بالشفاء: أحب البقر فأعطاه الملك بقرة حاملاً ، وقال له: يبارك لك فيها (أي أن الله يضع البركة فيها) ..*
*وكانت الدعوة مستجابة ، فقد بارك الله له فيها فولدت وتوالدت على مر الزمان حتى صارت قطيعاً هائلاً يملأ الآفاق غباراً حين يمشي للرعي ، وأصبح الرجل من أغنياء قومه ، فنال نعمة الصحة ، وأزال الله عنه المرض ، وأنعم عليه بالمال والخير الوفير ..*
*ومضى الملك إلى صاحبهم الثالث وهو الأعمى ، فوجده جالساً ، بينما الناس يتحدثون عن جمال الطبيعة وزرقة السماء ، وهو لايرى إلاظلام ، والناس يمشون في الطرقات آمنين ، أما هو فإن لم يجد من يسحبه في الطريق ، فمصيره التعثر والسقوط والآلام ، فقال له الملك: أي شيء أحب إليك ؟ فقال الأعمى: يرد الله إلي بصري ، فأبصر طريقي والناس ، وكان الرجل حزيناً وهو يتكلم وكأن مايتمناه مستحيلاً ..*
*ولكن الملك بفضل الله مسح على وجهه ، فرد الله إليه بصره ، وأبصر الرجل الملك أمامه والناس من حوله ، وكان الرجل يطير من الفرح ، وظل للحظات يتأمل هنا وهناك لايصدق أنه يرى الأشياء جميعها ، ويستمتع بجمالها ، وهم أن يشكر الملك ولكن الملك عاجله بالسؤال قائلاً: أي المال أحب إليك وقال الرجل على الفور: الغنم ، أحب مالي أن يكون غنمة ، فأعطاه الملك شاة والدة قد وضعت وليدها صغيراً جميلاً يرضع ويرتع حولها ، وإنصرف الملك وتمتع الرجل ببصره وكثرت أغنامه حتى أصبحت قطيعاً كبيراً لايرى الناظر أخره ، وأصبح من أغنياء قومه لكثرة ما عنده من غنم يبتاع بها مايشاء ، أصبح الثلاثة أثرياء ، وأصحاء ، وكلما مضى الزمن زادت أموالهم وكثر متاعهم ، وتمتعوا بصحتهم ، فنسي الأقرع قراعه ، ونسي الأبرص برصه ، وكذلك الأعمى ..*
*وفي غمرة النسيان والتمتع بهذه الأموال ، عاد إليهم الملك زائراً ، ولكنه جاء إلى الأبرص ، على شكل رجل أبرص وهي هيئته قبل أن يشقيه الله ويعطيه ، وقال له: أنا رجل مسکین ، کنت مسافرة وفقدت راحلتي ، فأسلك بالله الذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن أن تعطيني بعيراً أكمل به سفري .. فقال له الرجل: إن على حقوق كثيرة وأنصرف عنه لايريد إعطاءه ، فقال الملك بذكره ألم تكن أبرص ينفر منك الناس ، وكنت فقيرة فاعطاك الله .. فأنكر الرجل وقال: لم أكن كذلك وهذا المال ورثته عن آبائي وأجدادي ، فدعا عليه الملك إن كان كاذبة أعاده الله إلى حالة الأولى فقيراً أبرصاً ، وجاء الملك إلى الأقرع فطلب منه مالاً كما طلب من صاحبة الأبرص فجاء رده ناكراً للنعمة ، نعمة المال والصحة ، فدعا عليه الملك فعاد كما كان فقيرة أقرعة ..*
*ومضى الملك إلى الأعمى ، وكان رجلاً صالح صافي حسن النية وقال له: رجل مسكين وابن سبيل ، أسألك بالذي رد عليك بصرك أن تعطيني شاة من مالك هذا ، فقال الأعمى: قد كنت أعمى فرد الله علي بصري ، وفقيرا فأغنائي ، ولم يكذب على الملك ، وقال له: خذ ما شئت من الأغنام .. فبشره الملك بان الله أبتلاه وصاحبيه الأقرع والأبرص ، وقد وفقه الله لشكر النعمة ، لذلك نال رضي الله عز وجل ، وقال له الملك: أمسك مالك ، فإنما أبتليتم فقد رضي الله عنك ، وسخط على صاحبيك ..*
*الـحـكـمـة من الـقـصـة* ⬇
➖➖➖➖➖
*إن هذه القصة العظيمة لتدل على أن الله تعالى يبتلي عباده بالسراء وبالضراء ، وقد يقلب صاحب السراء من سرائه إلى ضراء ، ويقلب صاحب الضراء من ضرائه إلى سراء ، وقد تتعدد الإبتلاءات والتقلبات على الواحد من الناس ، وهذا دليل على قدرة الله تبارك وتعالى ، وأنه المتصرف في عباده بما شاء ؛ فيسلب المال والجاه والقوة ممن يملكونها مكن حيث لا يتصورون ، وقد رأينا ذلك رأي العين في زمننا هذا، فلايركن إلى سراء الدنيا ، ولايغتر بزخرفها إلامغرور ..*
*وفي القصة أيضاً دليل على سنة الله تعالى في قلب أحوال عباده من حال إلى حال ، وفق علمه وحكمته وهو العليم الحكيم ..*
*والقصة دليل على ما في النفوس البشرية من الجحود والإستكبار الذي لايعالج إلا بالإيمان والذل والخضوع لله تعالى ، وكسر كبرياء النفس وعلوها حتى لاتكون سبباً في هلاك صاحبها ..*
*كما أن هذه القصة العظيمة تدل على إختلاف البشر في القناعة والطمع ، فمنهم من هو صاحب طمع وشره وحرص كما كان حال الأبرص الذي طلب جلداً حسناً ولوناً حسناً ، ولم يكتف بأحدهما وهو الضروري ، وكذلك الأقرع حين طلب شعراً حسناً ، فلم يكتف بطلب الشعر فقط ، ومنهم القنوع الذي يرضيه اليسير كالأعمى الذي طلب أن يبصر فقط ، ولم يزد على ذلك بعينين حسناوين ، أو بصراً حاداً أو نحو ذلك .. وتجلى ذلك أكثر في طلب الأبرص والأقرع للإبل والبقر ، واكتفاء الأعمى بالغنم ، ومعلوم أن الإبل والبقر أنفس مالاً ، وأغلى ثمناً ، وأكثر نفعاً من الغنم ..*
*في الختام إن البشر أنواع منهم من يبتلى ويصبر ، ويشكر الله على باقي النعم ، ومنهم من يسخط ويرفض ، ولايعترف بفضل الله عليه حتى لو أتاه واد من النعم ، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين ..*
*تحياتنا_لكم*
*القاضي أنيـس جمعـان*
➰➰➰➰➰➰